مقاطع من رواية: ( عزازيل ) للمؤلف : يوسف زيدان ( الجزء الثالث )

مقاطع من رواية : ( عزازيل ) للمؤلف : يوسف زيدان ( الجزء الثالث )

أخذ الأسقف يعيد الصلاة, حتى أخذ الناس النشيج و هم يرددون الدعاء وراءه.. ثم صار صوته نارياً متأججاً و هو يقول لهم: يا أبناء الله, يا أحباء يسوع الحي, إن مدينتكم هذه, هي مدينة الر العظمى. فيها استقر مرقس الرسول, و على أرضها عاش الآباء, و سالت دماء الشهداء, و قامت دعائم الديانة. و لقد طهرناها من اليهود, المطرودين. أعاننا الر على طردهم, و تطهير مدينته منهم. و لكن أذيال الوثنيين الأنجاس, مازالت تثير غبار الفتن في ديارنا. إنهم يعيثون حولنا فساداً و هرطقةً, يخوضون في أسرار كنيستنا مستهزئين, و يسخرون مما لا يعرفون, و يلعبون في مواطن الجد ليشوهوا إيمانكم القويم. يريدون إعادة بيت الأوثان الكبير الذي انهدم على رؤوسهم قبل سنين, و يودون تعمير مدرستهم المهجورة التي كانت تبث الضلال في العقول, و يفكرون في إعادة اليهود من الربع الذي سكنوه إلى داخل أسوار مدينتكم. لكن الرب, يا جند الرب, لن يرضى بذلك أبداً. و لسوف يحبط مساعيهم الدنيئة, و سوف يبدد أحلامهم المريضة, و سوف يرفع قدر هذه المدينة العظمى, بأيديكم أنتم. ما دمتم بحق, جنود الرب. ما دمتم بحق, جنود الحق.. لقد صدق ربنا يسوع المسيح, حين نطق بلسان من نور, فقال: الحق يطهركم ! فتطهروا يا لأبناء الرب, و طهروا أرضكم من دنس أهل الأوثان. اقطعوا ألسنة الناطقين بالشر. ألقوهم مع معاصيهم في البحر, و اغسلوا الآثام الجسيمة. اتبعوا كلمات المخلص, كلمات الحق, كلمات الرب. و اعلموا أن ربنا المسيح يسوع, كان يحدثنا نحن أبناءه في كل زمان, لما قال: ما جئت لألقي في الأرض سلاماً, بل سيفاً.

اتجه بطرس قائد الجموع إلى الشارع الكانوبي الكبير, و من خلفه سار مثات الهاتفين. كانت شمس الظهيرة متقدة, و الرطوبة العالية تخنق الانفاس. البيوت ارتجت مع حركة المؤمنين و من علو الهتافات, كان بعضها مغلق النوافذ و الأبواب, و بعضها يقف ساكنوه على سطحه يلوحون بالصلبان.. ثار غبار الطرقات, و هربت الملائكة الرحيمة من السماء, و حدثني قلبي بقرب وقوع حدث مروع. كنت أسير مأخوذاً بما يجري من حولي, و كأنني أعيش واحدة من رؤى سفر حبقوق المنذرة بفناء العالم و زوال الدنيا.

لم أجد أحداً في طريقي, لا من اليهود و لا من غيرهم, فكأن الكون قد خلا تماماً عن الحسيس و الأنيس, عن الغنس و الجن و الملائكة و الشياطين. و كان الرب غائباً عني, او كان يستريح من خلق جديد, صنعه في ستة أيام أخرى. كنت وحدي أجوس بين الطين, و الرمال, و أطراف البحر و البحيرات, و الأرض السبخة.. مبتعداً عن الإسكندرية.

تابعت سيري شرقاً, مسلوب الروح. كنت مسرعاً نحو غاية لا أعرفها, في لحظة ما ادركت أنني لا أعرفني ! و أن ما مضى من عمري لم يعد موجوداً. كانت الافكار و الصور تمر على خاطري و لا تثبت, تماماً كما تمر قدماي على الأرض, فلا تقف. شعرت أن كل ما جرى معي, و كل ما بدا أمامي في أيامي و سنواتي الماضية, لا يخصني.. أنا آخر, غير هذا الذي كان, ثم بان !

لما رميت الرداء, انزاح يعض الثقل عن روحي. كانت نسمات الضحى, تماوج الماء الذي أخوض فيه, فأشعر مع تموجاته بأنني لا أسير و إنما أطير إلى أفق مجهول. لم يكن حولي شئ, على امتداد النظر في النواحي الأربع. وحده, الماء الضحل, يمتد في كل الجهات. قلت لنفسي بصوت مسموع, باللغة القبطية: هنا تمتزج الأرض و الماء بالسماء, و من هنا سأبدأ من جديد ! طرقتني الفكرة, و استولت فجأة على خاطري. خلعت ما البسه, و كومته فوق ربوة من تلك القباب الرملية المتناثرة بين الماء و الماء, ثم خضت حتى غاصت قدماي.. اتجهت ناحية الشمال, فاستقبلت الريح بصدري العاري, و فتحت ذراعي بطولهما, و رحت أتلو صلاة لم أكن قد قرأتها من قبل في كتاب, و لا سمعتها في قداس :
باسمك أيها المتعالي عن الاسم,
المتقدس عن الرسم و القيد و الوسم.
أخلي ذاتي لذاتك, كي يشرق بهاؤك الأزلي على مرآتك,
و تتجلى بكل نورك و سناك و رونقك.
باسمك أخلي ذاتي لذاتك, لأولد ثانية من رحم قدرتك,
مؤيداً برحمتك.
رحت أعيد هذه الصلاة و قد أغمضت عيني. و في كل مرة تالية, يعلو بها صوتي. حتى صار بعد عشرات المرات, صراخاً يملأ الفراغ المحيط بي. الفراغ الأول, الذي ابتدأت منه الأشياء.. لما توسطت الشمس كبد السماء, و لم يعد ظلي يمتد على أي جانب, انحنيت, فغرفت بكفي من الماء الطاهر, و وقفت فالقيته فوق رأسي, ليغسلني من كل الذي كان. لحظتها عمدت نفسي بنفسي, و أعطيت انفسي في لحظة الإشراق المفاجئ هذه, اسماً جديداً. هو الاسم الذي أعرف به إلى الآن.. هيبا.. و ما هو, إلا النصف الأول من اسمها.

للصلاة فعل كالسحر. فهي مراح للأرواح, و مستراح للقلب المحزون, و كذلك القداسات التي تغسلنا من همومنا كلها, بأن تلقيها عن كاهلنا إلى بساط الرحمة الربانية, فنرتاح إلى حين. ثم يعاودنا إليها الحنين ما دمنا مؤمنين بالرب, فإن خرجنا عن حظيرة الإيمان انفردنا, و صرنا فريسة تمزقها مخالب القلق و أنياب الأفكار..

في الطريق إلى مقر إقامتهم, جرى بنا خيل الكلام في كل مضمار. حدثني عن روعة أنطاكبة, و عن العلوم الوفيرة في مدارسها, و عن مكتبة الأسقفية العامرة, و عن البسطاء الذين يفدون من القرى المجاورة, و عن الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني, و تردده في معظم الأمور, و عن أسقف أنطاكية و كمال أخلاقه.. و حدثته عن أيامي في أخميم, و وصفت له تلك البلدة العامرة الواقعة على حواف مجرى النيل, و معبدها الكبير الذي تقف على بوابته تماثيل الفراعين الهائلة, يصل ارتفاع يعضها إلى ثلاثين متراً ! و عن تمثال المرأة الجميلة القائم هناك, يقولون إنها كانت ابنة الفرعون الكبير الذي بنى المعبد.

إن اليقين لن يكون إلا بإخماد الشكوك, و لن يخمد الشك إلا بتفويض الأمر إلى الرب, و تفويض الامر لن يكون غلا بمعرفة معجزاته في الكون, و معرفة المعجزات لن تكون إلا بالإقرار بتجسد الله و ظهوره في المسيح...

خريطون رجل مبارك من غير شك, لكن طريقه يختلف عن طريقنا في أنطاكية. هو يهجر العالم فيرتاح, و يغوص في ذاته فينجو بها, و يزهد في الأشياء فتسعى إليه. ز لكن طريقنا يا هيبا مختلف, فنحن نؤمن بقلوبنا و نقر بالمعجزة الربانية, ثم نعمل عقولنا لنرتقي بالإنسان إلى حيث أراد الرب. نحن نؤمن أن المعجزة لا تكون معجزة, إلا لو وقعت على سبيل الندرة, و إلا فإن تكرارها و تواليها سوف يخرجها من باب المعجزات. لقد تجسد الرب مرة في يسوع المسيح, ليرسم الطريق للإنسانية من بعد ذلك للأبد. فلا ينبغي لنا العيش في المعجزة ذاتها, و إنما في الطريق الذي رسمته, و إلا فقدت معناها.. لقد أراح الراهب خريطون قلبك بأن أزاح عن عقلك ما يؤرقه, أملاً في إذهاب قلق العقل, و إبقاء القلب منارة للإدراك. و القلب يا هيبا فيه نور الإيمان, و لكن ليس لديه القدرة على البحث و الإدراك و حل المتناقضات.


مقاطع من رواية ( عزازيل ) للمؤلف : يوسف زيدان ( الجزء الثاني )

من رواية عزازيل للروائي : يوسف زيدان ( الجزء الثاني )

-   
-         رأيت من مكاني و من جلستها انضمامة نهديها. كنت قد رأيت قبل ذاك اليوم نهود نساء يرضعن أطفالهن, لكن ما رأيته يومها كان مختلفاً. خلق الله نهود النساء كي يرضعن بها, فلأي سبب آخر خلق هذين النهدين ؟
-         لن أستطيع تدوين بقية ما جرى بيننا في ليلتنا الأولى هذه.. ليلتنا.. كانت حافلة بالشهوات المحرمة التي أهبطت آدم من الجنة.. ترى, هل طرد الله آدم من الجنة لأنه عصى الأمر. أم لأنه عرف سر أنوثة حواء, أدرك رجولته و اختلافه عن الله, مع أنه خلقه على صورته !
-         إن كليوباترا السابعة حين أحبت مارك أنطونيو لم تجعل منه رجلاً سعيداً ! و إنما جعلته رجلاً منتحراً مهزوماً متبرئاً من أهله و أصدقائه, و مطلقاً زوجته أم أطفاله.
-         يا يسوع المسيح.. إنني أشعر بحرقة قلب العذراء و لوعتها عليك.. أحس بعمق عذاباتها, يوم دقوا المسامير في يديك و قدميك المشبوحتين فوق الصليب. فأنا مشبوح مثلك فوق صليب الذكريات, و ملتاع مثلها بحرقة الفقدان..
-         عاودتني الافكار الرمادية, و التساؤلات : إلى متى سيدوم هذا الحال المخايل.. هذا النعيم المؤقت, و الخداع ؟ لست مخادعاً بطبعي, لم أكذب طيلة عمري. فلماذا أضللها و أضل معها منذ رأيتها؟ الرب يراني و يراها, و لن يغفر لي ما أنا فيه. لن يجيرني من عقابه إلا توبتي و رحمته. لو شاء عفا عني, و لو أراد فسوف ينكل بي عقاباً على خطيتي.. و قد نكل بي قبلاً, دونما أقترف أي خطية ! فلعل ذاك, جهذا.. ماذا عن خطايا أوكتافيا ؟ هل سيعاقبها الرب عليها, أم يتجاهلها لأنها وثنية لا تؤمن به ؟ أتراه يعذب, فقط, المؤمنين.. أظنه سيعفو في النهاية عن الجميع, لأنه رحيم !
-         تساؤلاتي عاودت عصفها بي: لماذا تدللني هذه المرأة ؟ و كيف تعطيني هذه المحبة الدافقة التي تغرق الكون, مع أنها لا تعرفني ؟ و أنا لا أعرف عنها إلا ما أخبرتني به.. لابد أنها أخفت عني أشياء, و لابد أن أشياءها المخفية مخيفة ! و هي على كل حال امرأة وثنية, و تعتقد في خرالآلهة اليونانية الحمقاء. الآلهة الذين يخادعون بعضهم, و يحاربون البشر, و يتزوجون كثيراً, و يخونون زوجاتهم ! أي خيال مريض أنجب آلهة اليونان. و الأعجب أن هناك من يؤمن بهم ! مثل أوكتافيا التي تعتقد أن إله البحر بوسيدون أرسلني إليها. ليس للإله, و أنا لم يرسلني أحد.. و لكن, كيف لي أن أعرف بيقين أنها ضالة و أنا مهتد ؟ إن التوراة التي نؤمن بها, مليئة أيضاً بمخادعات و حروب و خيانات. و إنجيل المصريين الذي نقرأ فيه, مع أنه ممنوع, فيه ما يخالف الأناجيل الأربعة المتداولة ! فهل هذا و ذاك خيال, و االه من وراء ذلك محتجب وراء كل الاعتقادات ؟
-         يا هيبا, قلت لك مراراً إنني لا أجئ و لا أذهب. أنت الذي تجئ بي, حين تشاء. فأنا آت إليك منك, و بك, و فيك. إنني أنبعث حين تريدني لأصوغ حلمك, أو أمد بساط خيالك, أو أقلب لك ما تدفنه من الذكريات. أنا حامل أوزارك و أوهامك و مآسيك, أنا الذي لا غنى لك عنهو لا غنى لغيرك.
-         الاعتراف طقس بديع, يطهرنا من خطايانا كلها, و يغسل قلوبنا بماء الرحمة الربانية السارية في الكون.
-         الحياة ظالمة. فهي تمتد بنا و تلهينا, ثم تذهلنا عنا و تغيرنا, حتى نصير كأننا غيرنا. هل كنت أنا الذي كنت في الإسكندرية قبل عشرين عاماً ! كيف تحاسبني الحياة الآن, على أخطاء و خطايا اقترفتها أيامها؟ و لماذا سيعود الرب بنا يوم الدينونة, ليحاسبنا على ما فعلناه قبل أمد بعيد, و كأننا عشنا حياة واحدة لم نتبدل خلالها ؟
-         يا حبيبي أنت أجمل خرافة عرفتها, و سوف أظل مؤمنة بها بقية عمري.
-         كانت أستار المساء قد انسدلت, و كنت أشعر بأنني تائه تماماً في أنحاء أوكتافيا, و غارق بالكلية في نهرها الجارف.. كانت تحيط بوجودي من كل الجهات, مثلما يحيط البحر الأعظم بالعالم أجمع.
-         من يدري ان صفاتها هذه سوف تدوم غلى الابد ؟ لا شئ يدوم إلى الابد.. ماذا لو غدرت بي ؟ و النساء بطبعهن غادرات.
-         و لكن مهما كان, فلا يجوز لإنسان إهانة عقائد غيره من الناس, و إلا لهانت كل الاعتقادات و أهينت, و لم يصح أي دين لأي إنسان.
-         هيباتيا.. أكاد إذ أكتب اسمها الآن, أراها أمامي و قد وقفت على منصة الصالة الفسيحة, و كأنها كائن سماوي هبط إلى الأرض من الخيال الإلهي, ليبشر الناس بخبر رباني رحيم. كانت لهيباتيا تلك الهيئة التي تخيلتها دوماً ليسوع المسيح, جامعة بين الرقة و الجلال.. في عينيها زرقة خفيفة و رمادية, و فيها شفافية. في جبهتها اتساع و نور سماوي, و في ثوبها الهفهاف و وقفتها, وقار يماثل ما يحف بالآلهة من بهاء. من أي عنصر نوراني خلقت هذه المرأة ؟.. كانت تختلف عن بقية الناس ! فإن كان الإله خنوم هو الذي ينحت أجسام الناس, فمن أي صلصال طاهر نحتها, و بأي عطر سماوي سبكها؟.. يا إلهي, إنني أجدف.
-         و الفهم أيها الأحبة, و إن كان فعلاً عقلياً, إلا أنه فعل روحي أيضاً. فالحقائق التي نصل إليها بالمنطق و بالرياضيات, إن لم نستشعرها بأرواحنا, فسوف تظل حقائق باردة, أو نظل نحن قاصرين عن إدراك روعة إدراكنا لها..
-         الكراهية ستقتلني, أنا الذي يجب عليه أن يحب أعداءه, و يحسن لمن أساء إليه, كي يكون مسيحياً حقاً.. لم أر المحبة الحقة, إلا في إمرأة وثنية لقيتني صدفة على شاطئ البحر, و أدخلتني جنتها ثلاث ليال سوياً, و أربعة أيام لا تنسى.
-         لما رأيت الأسقف اول مرة, استغربت و احترت, لأنه أطل علينا من مقصورة مذهبة الجدار بالكامل, هي شرفة واحدة, فوقها صليب ضخم من الخشب, معلق عليه تمثال يسوع المصنوع من الجص الملون. من جبهة المسيح المصلوب و يديه و قدميه تتساقط الدماء الملونة بالأحمر القاني.
نظرت إلى الثوب الممزق في تمثال يسوع, ثم إلى الرداء الموشى للأسقف ! ملابس يسوع أسمال بالية ممزقة عن صدره و معظم أعضائه, و ملابس الاسقف محلاة بخيوط ذهبيه تغطيه كله, و بالكاد تظهر وجهه. يد يسوع فارغة من حطام دنيانا, و في يد الاسقف صولجان أظنه, من شدة بريقه, مصنوعاً من الذهب الخالص. فوق رأس يسوع أشواك تاج الآلام, و على رأس الاسقف تاج الأسقفية الذهبي البراق.. بدا لي يسوع مستسلماً و هو يقبل تضحيته بنفسه على صليب الفداء, و بدا لي كيرلس مقبلاً على الإمساك باطراف السماوات و الارض.



مقاطع من رواية : { عزازيل } للمؤلف: يوسف زيدان ( الجزء الأول )

من رواية عزازيل للأديب : يوسف زيدان ( الجزء الأول )

-         سوف أعيد دفن هذا الكنز, فإن أوان ظهوره لم يأت بعد !
-         الرحمة يا إلهي. الرحمة و العفو يا أبانا الذي في السموات. ارحمني و اعف عني, فاني كما تعلم ضعيف. يا إلهي الرحيم, إن يدي ترتعشان رهبةً و خيفةً, و قلبي و روحي يرتجفان من تصاريف و عصف هذا الزمان.
-         و أنت وحدك إلهي تعرف اسمي الحقيقي, أنت و الناس في بلادي الأولى التي شهدت مولدي. ياليتني لم أولد أصلاً, أو ليتني مت في طفولتي من دون آثام, حتى أضمن عفوك و رحمتك.
-         فإن شئت يا صاحب العزة السماوية و المجد الذي في الأعالي, أن تدركني بإشارة منك, فإنني مستقبل أمرك و مطيع. و لو تركتني لنفسي, أضيع.. فقد صارت نفسي معلقة من أطرافها, تتنازعها غوايات عزازيل اللعين.
-         و لعل البدايات كما كان أستاذي القديم سوريانوس يقول, ما هي إلا محض أوهام نعتقدها. فالبداية و النهاية, إنما تكونان فقط في الخط المستقيم. و لا خطوط مستقيمةإلا في أوهامنا, أو في الوريقات التي نسطر فيها ما نتوهمه. أما في الحياة و في الكون كله, فكل شئ دائري يعود إلى ما منه بدأ, و يتداخل مع ما به اتصل. فليس ثمة بداية و لا نهاية على الحقيقة, و ما ثم إلا التوالي الذي لا ينقطع, فلا ينقطع في الكون الاتصال, و لا ينفصم التداخل, و لا يكف التفريغ, و لا الملء و لا التفريغ.. الأمر الواحد يتوالى اتصاله, فتتسع دائرته لتتداخل مع الأمر الآخر, و تتفرع عنهما دائرة جديدة تتداخل بدورها مع بقية الدوائر. فتمتلئ الحياة, بأن تكتمل دائرتها, فتفرغ عند انتهائنا بالموت, لنعود إلى ما منه ابتدأنا.
-         للقسوس الكهنة زوجات ينامون في أحضانهن, أما نحن الرهبان فننام منفردين, و في معظم الليالي ننام جالسين, أو لا ننام أصلاً لاستغراقنا في الصلوات و التسبيحات الطويلة.
-         و كتب على الزمان أحداثاً عاينتها, و عانيت منها, و ما كانت تخطر لي على بال.
-         لماذا انطفأ كل شئ ؟ نور الإيمان الذي كان يضئ باطني, شموع السكينة التي طالما آنست وحدتي, الاطمئنان إلى جدران هذه الصومعة الحانية.. حتى شمس النهار, صرت أراها اليوم مطفأة, و موحشة.
-         دخلت أورشليم في حدود الثلاثين من عمري الذي كان قد أنهكه سفر الجسم و الروح في الأرض و السماوات, و حيرة ارتحال العبين صفحات الكتب. دخلتها مترنح الخطو مستنداً إلى الهواء.
-         كان قلبي يبتهل طيلة الطريق, راجياً الرب أن يطهرني من آثار الغرق في بحار الحيرة, و أن يفيض على روحي بالسكينة, و ينعم على قلبي بالإيمان القويم و نور اليقين.
-         لا أحد يختار, و إنما هي مشيئة السماء تتخلل الاشياء و الكلمات حتى تصلنا على نحو خفي.
-         من هنا بدا نور السماء,
فأزاح عتمة الأرض, و أراح من الويل الأرواح.
من هنا أشرقت شمس القلوب,
مع ألق المخلص, المتوهج بالرحمة فوق صليب الفداء.
و ما الصليب ؟
هو قائم القدوسية الرأسي يقاطعه قائم الرحمة.
فلنفتح لأفق الرحمة, ذراعينا, و ننتصب بإزاء القدوسية.
فنكون صليباً يحمل صليبه,
ويتبع يسوع.
-         يا ولدي, حياتنا مليئة بالآلام و الآثام, أولئك الجهال أرادوا الخلاص من موروث القهر بالقهر, و من ميراث الاضطهاد بالاضطهاد, و كنت أنت الضحية. أعرف أن ألمك عظيم, أنا أشعر به, فليشملنا الرب الرحيم بعطفه.. قم يا ولدي لنصلي معاً صلاة الرحمة.
-         في نور الصبح إنهاك لمن أرقوا ليلتهم, إنهاك عاينته و عانيت منه طويلاً, و مازلت أعانيه في معظم الأيام.
-         لم يكن الجو حاراً, غير أنني آويت إلى الركن الظليل. و عند موضعي المعتاد, بالجانب الايمن من الساحة, بعد البوابة الكبيرة, أسندت مؤخرة رأسي إلى شجرتي الوارفة التي كانت أحب الشجرات هناك إلى قلبي.. غمرني إجهاد العائد من سفر طويل, و رحت أتوهم بعدما أغمضت عيني, أنني صرت و الشجرة كياناً واحداً. أحسست بروحي تنسحب من ضلوعي, فتتخلل جذع الشجرة, ثم تغوص في جذورها العميقة, و تتوغل في قلب فروعها العالية. كان كياني يتمايل مع أوراقها, و يتساقط بعضي مع سقوط الأوراق من أغصانها. تذكرت وقتها, ما قرأته في أخميم من شذرات فيثاغورث حيث يقول إنه تذكر في لحظة إشراق كثيراً من حيواته السابقة. منها حياة كانت روحه فيها شجرة ! تمنيت ساعتها لو اصير شجرة مثل هذه, للأبد, شجرة وارفة الظلال و غير مثمرة, فلا ترمى بالحجارة, و إنما تهواها القلوب لظلها. هذه البلاد قاحلة و جفافها شديد, فلو صرت هذه الشجرة ساحنو على الذين يستظلون بي, و سيكون ظلي رحمةً لهم أمنحها بلا مقابل. سأكونمأوى للمنهكين, لا مطمعاً لطالبي الثمار.. ابتهلت يومها بحرقة الغريب عن دياره و عن ذاته, و ناديت ربي في سري: يا إلهي الرحيم خذني الآن إليك, خلصني من جشدي الفاني.. هلا ودعت روحي وديعة في هذه الشجرة الحبيبة, فأزداد تطهراً؛ إذ أحنو كل ظهيرة على زوار هذه البقعة المقدسة من الحجيج المتطهرين بنورك من آثامهم. سأنتظر في الشتاء سقوط مطلر محبتك للكون, و أستنشق كل صباح قطرات الندى التي يهبني إياها برد الليل, و لن يشغلني أمر عن تسبيح مجدك السماوي.. الشجر أنقى من البشر, و أكثر حباً للإله. لو صرت هذه الشجرة, سأنشر ظلي على المساكين..
-         الله لا يخلق الشر.. و لا يفعله.. و لا يرضى به, الله كله خير و محبة. لكن أرواح الناس كانت تخطئ الطريق في الأزمنة القديم, حين يظنون أن العقل كاف لمعرفة الحقيقة, من دون خلاص ياتيهم من السماء.
-         النوم هبة إلهية, لولاها لاجتاح العالم الجنون. كل ما في الكون ينام, و يصحو و ينام, إلا آثامنا و ذكرياتنا التي لم تنم قط, و لن تهدأ أبداً..
-         الكتابة تثير في القلب كوامن العواصف و مكامن الذكريات, و تهيج علينا فظائع الوقائع. في فترات بعيدة من حياتي, و متباعدة, كان إيماني يؤنسني, و يملأ وجودي غبطة. و اليوم تحيط بي الغيوم من كل جانب, و تهب في باطني الأعاصير حتى تكاد تقتلعني من الكون كله.
-         امتلأ فراشي شوكاً ملحياً. و لما توغل الليل البهيم, اختلطت دموعي الدافقة بدعائي الحار: يا إلهي, أغثني بألطافك الخفية الرحيمة, فآلامي التي لا تنتهي و لا تحتمل. خلصني بفضلك يا أبانا الذي في السماوات, تقدس اسمك, من حرقة الذكريات العاصفات بقلبي.. هبني يا إلهي, ميلاداً جديداً أعيش به من غير ذاكرة, أو ارحمني, فاقبضني إليك, و أبعدني عن هذا الكون.

-         غمرتني السعادة فوق صفحة الماء, حتى وقع ما جرى معي, فجعلني لا أقرب البحر من بعد ذلك أبداً.. فوق صفحة الماء الرقراق, كانت نبضات الدفء الداخلي تزيح عني برودة قلبي و ارتعاشة أطرافي. و لما حملني البحر, شعرت بأنني جنين يخرج من رحم هائل. انتابتني الأحاسيس الغريبة, و أخذتني لهفة اللمس و دغدغة الشهوة. أنا الذي لم أعرف قبلها امرأة في حياتي, و لم أكن أنوي أن أعرف. غير أنني ساعتها تفكرت في اللذة, و جال ببالي أن البجر امرأة لعوب تمتع الرجال العائمين, من دون خطية تحسب عليهم أو يحاسبون عليها.. البحر رحمة من الله للمحرومين, لك المجد يا أرحم الراحمين. 

من أجمل أشعار الشاعر الراحل فاروق شوشه

من أجمل أشعار الشاعر الراحل فاروق شوشه

الرماد أمامك

الرماد أمامك ..
و البحر خلفك ..
فاترك – لمن خلعوك – الخلافة
هذا زمان لدهماء هذا الزمان
يعيثون فيه فسادا
و يرجون منه امتدادا
و يحيون ...
يرتكون صنوف الخطايا
و في طيشهم يوغلون
فلا يستدير إليهم أحد !
الرماد يسود ..
تقدم ...
و كن واحدا لا نصيب له
في الرهان
و لا شوكة تستفز ,
و إلا ...
فأنت الحصاة التي تفسد الزيت
في آلة النابهين ,
و أنت البلاء المسلط ,
أنت الدمار المسيطر
حاذر
فرأسك أول ما سيطير
إن ارتفع الرأس عن شبره المفترض
أو تجاوز أبعد من كتف القانص
المعترض
أو تأمل بعضا من اللوحة المدهشة
مشهدا ,
مشهدا ,
كازدحام الأفق ..
بالجياع الذين يبيعون أعمارهم
لاقتناء رصاصة
و الصغار الذين يسيرون تحت النعوش
لكي يكبروا في القبور
و الشيوخ الذين يؤهلهم عجزهم
لابتلاع المرارة
و تهوي الأوابد عبر المفاوز
و هي تنقب عن طلل في الرمال
هنالك ...
تصبح عولمة الفاتحين شظايا
و بعض زجاج تهشم
فوق الرؤوس المليئة بالكبر
لا تمتلك الآآن غير الخشوع
لسيدها الموت
يدفعها في اتجاه العناد
و في لوثة الكبرياء
لعل الجراح يرممها الثار
و الثأر نار بغير انتهاء !

الرماد انطلق ...
هل تطيق لصهيون هيمنة لا ترد !
و هل تتنازل عن قدس أقداسك
المستباحة ؟
هل يطعمونك حتى تكون شريكا
و أنت الذي يتحلق حولك
كل الذين يرونك خيط الرجاء
إلى وطن مستباح
و أرض
و خاتمة – حرة – للمطاف ؟
هل تخون دمك ؟!
إنه وطن ساكن في شرايين قلبك
ملتصق في و تينك
مشتعل في رؤياك
و مخضوضل في جبينك
مرتسم في يقينك
منطلق في جناحيك
محتشد في قرارة ذاتك
مستمسك بالضلوع !
فانطلق ...
لا رجوع !

و لا حائط غير جلدي
و متكأ غير مائك
مسرجة غير وجهك
أنت الرفيق الذي لا يخون
و أنت الدليل الذي لا يضل
و أنت الزمان القديم الجديد
الزمان الذي ليس عنه بديل !
فلتطل هجمات الرماد القبيح
و ليضع مرة واحدة
ما بدا واهنا من رجاء شحيح
و ليفز بالغنيمة من يهرعون
و من يؤجرون
و من يهتفون ...
لا يهم !
وحدك الآن ..
تبقي مدى الدهر
أنت الحقيقي ,
أنت الصحيح
و أنت الجميل الجليل !


لحظة لقاء

كم يبقى طعم الفرحة في شفتينا !
عمرا ؟
هل يكفي !
دهرا مسكوبا من عمرينا ..
فليهدأ ناقوس الزمن الداوي في صدرينا
و للتتوقف هذي اللحظة في عمقينا .
لن نذكر إلا أن طوقنا الدنيا أغفينا
و أتاحت كفانا ... تغرس دفئا في روحينا
لن نذكر إلا أنا جسدنا حلماً
و ارتاح الوهج الدامي في عينينا .

قلبك في صدري, يسمعني أغلى نبضاته
يهدأفي خلجات اللقيا. أغفو في أعمق خلجاته
أطل عليك. ضياء العمر, و نضرة واحاته
أقبس ومض الأمل المشرق في لفتاته
أرشف نبع الضوء الهامي في نظراته
يتساقط كل رحيق العالم في قطراته
و أرى دنياي و أيامي أبدا تمشي في خطواته

أسأل: هل تتسع الأيام لفرحة قلبين ؟
تعبا,
حملا الدنيا,
هل يخبو هذا الألق الساجي في العينين
و نخاف يطير, فنمسكه, و نضم الدنيا بيدين
و نعود إلى عش ناء نرتاح إليه طيرين
أسأل: هل تتسع الأيام لنضرة حلمين !
أقرأ أيامي عندهما كونا يتفجر لإثنين

عيناي تقول, يداي تحدق, و الأشواق
فيض يغمرني, يغرقني في لفح عناق
و حريق يألك أيامي ... يشعل نيران الأحداق
مازلنا من خلف اللقيا في صدر مشتاق
أملاً يتجدد موصولا ....
معسول شراب و مذاق .
الموضوع الثاني بعنوان ( بين عينيك موعدي ) :
بين عينيك موعدي
و أنا أحمل أيامي و أشواقي اليكا ..
و أرى في الافق النائي يداً تمتد كالوعد, و تهفو
و أراني نحوها ..... طوع يديكا
من قديم الدهر, كانت نبضة مثل إهتزاز البرق
مثل اللمح,
شئ لست أدريه احتواني
فتلاصقت لديكا.... يومها
و اترعشت عينان
اعفي خافقان,
استسلما للخدر الناعم ينساب و يكسو وجنتيكا
يومها, و اتحدت روحان,
أغفت مقلتان,
اختارتا حلماً برئ الوجه, حلو السمت
عشناه ندياً أخضر اللون, وضيئاً
و قرأت العمر مكتوباً... هنا ... في مقلتيكا

بين عينيك موعدي
و أنا كل صباح اتلقى نبرة اللحن المندى
ساكباً في قاع أيامي ربيعاً و اشتياقاً ليس يهدا
ليس يرتاح ... سوى أن عانق العمر و ضما
ليس يرتاح ... سوى أن اشبع الأيام تقبيلاً و لثماً
و تهادى كاخضرار الفجر,
مزهز الأسارير
طليق الوجه, مضموماً إلى الوجه المفدى
لمسة, و انطلقت منك يد
تعزف انغاما ....
و تهتز رياحين و ورودا
مسحة جبهة ايامي, و محت عنها عناءاً و تهاويل و كدا
و استقرت في يدي لحظة صدق, خاشع الخفقة
ينساب وعودا
ذقتها وعداً فوعدا
ذقتها يا مسكري ... شهداً ... فشهدا

بين عينيك موعدي
يومنا القادم احلى لم يزل طوع هوانا
كلما شارفت الحلم خطانا, و اطمأنت شفتانا
و استراحت مقلتانا
و تمنينا, فكان العمر أشهى من أمانينا, و أغلى
و ظننا أن خيطاً من ضياء الفجر يهتز بعينينا
سلاماً و امانا
كلما قلنا بدأنا و انتهينا
صرخت فينا و في أعماقنا, لحظة جوع ليس يهدا
فرجعنا مثلما كنا,
و كنا قد ظننا الشوق قد جاوزنا, و انداح عنا
و يد تمتد من خلف الليالي, كي تطلا
نسجت ثوب حنان ليس يبلى
صوقت أيمان الخضراء أحلامنا و ريحاناً و ظلا
يومنا القادم ... أحلى
يومنا القادم... أحلى


القصيدة و الرعد

كان بين القصيدة و الرعد ثأر قديم
كلما نزفت بوحها
لاحقتها سنابكه بالغبار الرجيم
فتهاوت على درج الأرجوان
مضمخة بالاسى العبقري,
و دافنة همها في انعقاد الغيوم
القصيدة, باكية, تستجير
و للرعد مطرقة و زئير
و دمدمة,
و فضاء حميم
و انتشاء يخامر كل الذين يطلون من شاهق
الكون,
يمتلكون المدى و التخوم
القصيدة ها .. تتناثر كالذر
سابحة في هيولي السديم
تتفتق ذائبة في عروق الحجارة
في غرين النهر,
في جذع صبارة ...
شوكها من حروف الشقاء النظيم
ثم ترتاح من وحشة في العراء
و من شجن في الدماء,
فتأوي إلى الليل,
ساكبة دمعها
في عيون النجوم !
القصيدة, شاخصة تتساءل
و هي تطل على الكون
أي بلاء عظيم !
ترصدني الرعد
حتى انطفأت
و أوشكت أذبل
أوشكت أرحل
رعد يباغتني
قلت : خير سيأتي
و دنيا ستمطر ...
لكنه انجاب ... رعد عقيم !
هل أجاريه قعقعةً ؟
الوجود ضجيج ...
له لغة من رماد المداخن
و الأفق كابٍ دميم
فجأة,
مثل ومض الشهاب
و وقع النبوءة في القلب,
ها,
يتكشف لي بارق ... لا يريم !
لا تخافي من الرعد,
و انطلقي بالغناء,
الغناء الذي يتخلل هذا السديم
لا تخافي من الرعد, لا
إنه زمن عابر
و القصيدة فاتحةً ...
و زمان مقيم !