مقاطع من رواية: ( عزازيل ) للمؤلف : يوسف زيدان ( الجزء الثالث )

مقاطع من رواية : ( عزازيل ) للمؤلف : يوسف زيدان ( الجزء الثالث )

أخذ الأسقف يعيد الصلاة, حتى أخذ الناس النشيج و هم يرددون الدعاء وراءه.. ثم صار صوته نارياً متأججاً و هو يقول لهم: يا أبناء الله, يا أحباء يسوع الحي, إن مدينتكم هذه, هي مدينة الر العظمى. فيها استقر مرقس الرسول, و على أرضها عاش الآباء, و سالت دماء الشهداء, و قامت دعائم الديانة. و لقد طهرناها من اليهود, المطرودين. أعاننا الر على طردهم, و تطهير مدينته منهم. و لكن أذيال الوثنيين الأنجاس, مازالت تثير غبار الفتن في ديارنا. إنهم يعيثون حولنا فساداً و هرطقةً, يخوضون في أسرار كنيستنا مستهزئين, و يسخرون مما لا يعرفون, و يلعبون في مواطن الجد ليشوهوا إيمانكم القويم. يريدون إعادة بيت الأوثان الكبير الذي انهدم على رؤوسهم قبل سنين, و يودون تعمير مدرستهم المهجورة التي كانت تبث الضلال في العقول, و يفكرون في إعادة اليهود من الربع الذي سكنوه إلى داخل أسوار مدينتكم. لكن الرب, يا جند الرب, لن يرضى بذلك أبداً. و لسوف يحبط مساعيهم الدنيئة, و سوف يبدد أحلامهم المريضة, و سوف يرفع قدر هذه المدينة العظمى, بأيديكم أنتم. ما دمتم بحق, جنود الرب. ما دمتم بحق, جنود الحق.. لقد صدق ربنا يسوع المسيح, حين نطق بلسان من نور, فقال: الحق يطهركم ! فتطهروا يا لأبناء الرب, و طهروا أرضكم من دنس أهل الأوثان. اقطعوا ألسنة الناطقين بالشر. ألقوهم مع معاصيهم في البحر, و اغسلوا الآثام الجسيمة. اتبعوا كلمات المخلص, كلمات الحق, كلمات الرب. و اعلموا أن ربنا المسيح يسوع, كان يحدثنا نحن أبناءه في كل زمان, لما قال: ما جئت لألقي في الأرض سلاماً, بل سيفاً.

اتجه بطرس قائد الجموع إلى الشارع الكانوبي الكبير, و من خلفه سار مثات الهاتفين. كانت شمس الظهيرة متقدة, و الرطوبة العالية تخنق الانفاس. البيوت ارتجت مع حركة المؤمنين و من علو الهتافات, كان بعضها مغلق النوافذ و الأبواب, و بعضها يقف ساكنوه على سطحه يلوحون بالصلبان.. ثار غبار الطرقات, و هربت الملائكة الرحيمة من السماء, و حدثني قلبي بقرب وقوع حدث مروع. كنت أسير مأخوذاً بما يجري من حولي, و كأنني أعيش واحدة من رؤى سفر حبقوق المنذرة بفناء العالم و زوال الدنيا.

لم أجد أحداً في طريقي, لا من اليهود و لا من غيرهم, فكأن الكون قد خلا تماماً عن الحسيس و الأنيس, عن الغنس و الجن و الملائكة و الشياطين. و كان الرب غائباً عني, او كان يستريح من خلق جديد, صنعه في ستة أيام أخرى. كنت وحدي أجوس بين الطين, و الرمال, و أطراف البحر و البحيرات, و الأرض السبخة.. مبتعداً عن الإسكندرية.

تابعت سيري شرقاً, مسلوب الروح. كنت مسرعاً نحو غاية لا أعرفها, في لحظة ما ادركت أنني لا أعرفني ! و أن ما مضى من عمري لم يعد موجوداً. كانت الافكار و الصور تمر على خاطري و لا تثبت, تماماً كما تمر قدماي على الأرض, فلا تقف. شعرت أن كل ما جرى معي, و كل ما بدا أمامي في أيامي و سنواتي الماضية, لا يخصني.. أنا آخر, غير هذا الذي كان, ثم بان !

لما رميت الرداء, انزاح يعض الثقل عن روحي. كانت نسمات الضحى, تماوج الماء الذي أخوض فيه, فأشعر مع تموجاته بأنني لا أسير و إنما أطير إلى أفق مجهول. لم يكن حولي شئ, على امتداد النظر في النواحي الأربع. وحده, الماء الضحل, يمتد في كل الجهات. قلت لنفسي بصوت مسموع, باللغة القبطية: هنا تمتزج الأرض و الماء بالسماء, و من هنا سأبدأ من جديد ! طرقتني الفكرة, و استولت فجأة على خاطري. خلعت ما البسه, و كومته فوق ربوة من تلك القباب الرملية المتناثرة بين الماء و الماء, ثم خضت حتى غاصت قدماي.. اتجهت ناحية الشمال, فاستقبلت الريح بصدري العاري, و فتحت ذراعي بطولهما, و رحت أتلو صلاة لم أكن قد قرأتها من قبل في كتاب, و لا سمعتها في قداس :
باسمك أيها المتعالي عن الاسم,
المتقدس عن الرسم و القيد و الوسم.
أخلي ذاتي لذاتك, كي يشرق بهاؤك الأزلي على مرآتك,
و تتجلى بكل نورك و سناك و رونقك.
باسمك أخلي ذاتي لذاتك, لأولد ثانية من رحم قدرتك,
مؤيداً برحمتك.
رحت أعيد هذه الصلاة و قد أغمضت عيني. و في كل مرة تالية, يعلو بها صوتي. حتى صار بعد عشرات المرات, صراخاً يملأ الفراغ المحيط بي. الفراغ الأول, الذي ابتدأت منه الأشياء.. لما توسطت الشمس كبد السماء, و لم يعد ظلي يمتد على أي جانب, انحنيت, فغرفت بكفي من الماء الطاهر, و وقفت فالقيته فوق رأسي, ليغسلني من كل الذي كان. لحظتها عمدت نفسي بنفسي, و أعطيت انفسي في لحظة الإشراق المفاجئ هذه, اسماً جديداً. هو الاسم الذي أعرف به إلى الآن.. هيبا.. و ما هو, إلا النصف الأول من اسمها.

للصلاة فعل كالسحر. فهي مراح للأرواح, و مستراح للقلب المحزون, و كذلك القداسات التي تغسلنا من همومنا كلها, بأن تلقيها عن كاهلنا إلى بساط الرحمة الربانية, فنرتاح إلى حين. ثم يعاودنا إليها الحنين ما دمنا مؤمنين بالرب, فإن خرجنا عن حظيرة الإيمان انفردنا, و صرنا فريسة تمزقها مخالب القلق و أنياب الأفكار..

في الطريق إلى مقر إقامتهم, جرى بنا خيل الكلام في كل مضمار. حدثني عن روعة أنطاكبة, و عن العلوم الوفيرة في مدارسها, و عن مكتبة الأسقفية العامرة, و عن البسطاء الذين يفدون من القرى المجاورة, و عن الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني, و تردده في معظم الأمور, و عن أسقف أنطاكية و كمال أخلاقه.. و حدثته عن أيامي في أخميم, و وصفت له تلك البلدة العامرة الواقعة على حواف مجرى النيل, و معبدها الكبير الذي تقف على بوابته تماثيل الفراعين الهائلة, يصل ارتفاع يعضها إلى ثلاثين متراً ! و عن تمثال المرأة الجميلة القائم هناك, يقولون إنها كانت ابنة الفرعون الكبير الذي بنى المعبد.

إن اليقين لن يكون إلا بإخماد الشكوك, و لن يخمد الشك إلا بتفويض الأمر إلى الرب, و تفويض الامر لن يكون غلا بمعرفة معجزاته في الكون, و معرفة المعجزات لن تكون إلا بالإقرار بتجسد الله و ظهوره في المسيح...

خريطون رجل مبارك من غير شك, لكن طريقه يختلف عن طريقنا في أنطاكية. هو يهجر العالم فيرتاح, و يغوص في ذاته فينجو بها, و يزهد في الأشياء فتسعى إليه. ز لكن طريقنا يا هيبا مختلف, فنحن نؤمن بقلوبنا و نقر بالمعجزة الربانية, ثم نعمل عقولنا لنرتقي بالإنسان إلى حيث أراد الرب. نحن نؤمن أن المعجزة لا تكون معجزة, إلا لو وقعت على سبيل الندرة, و إلا فإن تكرارها و تواليها سوف يخرجها من باب المعجزات. لقد تجسد الرب مرة في يسوع المسيح, ليرسم الطريق للإنسانية من بعد ذلك للأبد. فلا ينبغي لنا العيش في المعجزة ذاتها, و إنما في الطريق الذي رسمته, و إلا فقدت معناها.. لقد أراح الراهب خريطون قلبك بأن أزاح عن عقلك ما يؤرقه, أملاً في إذهاب قلق العقل, و إبقاء القلب منارة للإدراك. و القلب يا هيبا فيه نور الإيمان, و لكن ليس لديه القدرة على البحث و الإدراك و حل المتناقضات.


No comments:

Post a Comment