مقاطع من رواية ( عزازيل ) للمؤلف : يوسف زيدان ( الجزء الثاني )

من رواية عزازيل للروائي : يوسف زيدان ( الجزء الثاني )

-   
-         رأيت من مكاني و من جلستها انضمامة نهديها. كنت قد رأيت قبل ذاك اليوم نهود نساء يرضعن أطفالهن, لكن ما رأيته يومها كان مختلفاً. خلق الله نهود النساء كي يرضعن بها, فلأي سبب آخر خلق هذين النهدين ؟
-         لن أستطيع تدوين بقية ما جرى بيننا في ليلتنا الأولى هذه.. ليلتنا.. كانت حافلة بالشهوات المحرمة التي أهبطت آدم من الجنة.. ترى, هل طرد الله آدم من الجنة لأنه عصى الأمر. أم لأنه عرف سر أنوثة حواء, أدرك رجولته و اختلافه عن الله, مع أنه خلقه على صورته !
-         إن كليوباترا السابعة حين أحبت مارك أنطونيو لم تجعل منه رجلاً سعيداً ! و إنما جعلته رجلاً منتحراً مهزوماً متبرئاً من أهله و أصدقائه, و مطلقاً زوجته أم أطفاله.
-         يا يسوع المسيح.. إنني أشعر بحرقة قلب العذراء و لوعتها عليك.. أحس بعمق عذاباتها, يوم دقوا المسامير في يديك و قدميك المشبوحتين فوق الصليب. فأنا مشبوح مثلك فوق صليب الذكريات, و ملتاع مثلها بحرقة الفقدان..
-         عاودتني الافكار الرمادية, و التساؤلات : إلى متى سيدوم هذا الحال المخايل.. هذا النعيم المؤقت, و الخداع ؟ لست مخادعاً بطبعي, لم أكذب طيلة عمري. فلماذا أضللها و أضل معها منذ رأيتها؟ الرب يراني و يراها, و لن يغفر لي ما أنا فيه. لن يجيرني من عقابه إلا توبتي و رحمته. لو شاء عفا عني, و لو أراد فسوف ينكل بي عقاباً على خطيتي.. و قد نكل بي قبلاً, دونما أقترف أي خطية ! فلعل ذاك, جهذا.. ماذا عن خطايا أوكتافيا ؟ هل سيعاقبها الرب عليها, أم يتجاهلها لأنها وثنية لا تؤمن به ؟ أتراه يعذب, فقط, المؤمنين.. أظنه سيعفو في النهاية عن الجميع, لأنه رحيم !
-         تساؤلاتي عاودت عصفها بي: لماذا تدللني هذه المرأة ؟ و كيف تعطيني هذه المحبة الدافقة التي تغرق الكون, مع أنها لا تعرفني ؟ و أنا لا أعرف عنها إلا ما أخبرتني به.. لابد أنها أخفت عني أشياء, و لابد أن أشياءها المخفية مخيفة ! و هي على كل حال امرأة وثنية, و تعتقد في خرالآلهة اليونانية الحمقاء. الآلهة الذين يخادعون بعضهم, و يحاربون البشر, و يتزوجون كثيراً, و يخونون زوجاتهم ! أي خيال مريض أنجب آلهة اليونان. و الأعجب أن هناك من يؤمن بهم ! مثل أوكتافيا التي تعتقد أن إله البحر بوسيدون أرسلني إليها. ليس للإله, و أنا لم يرسلني أحد.. و لكن, كيف لي أن أعرف بيقين أنها ضالة و أنا مهتد ؟ إن التوراة التي نؤمن بها, مليئة أيضاً بمخادعات و حروب و خيانات. و إنجيل المصريين الذي نقرأ فيه, مع أنه ممنوع, فيه ما يخالف الأناجيل الأربعة المتداولة ! فهل هذا و ذاك خيال, و االه من وراء ذلك محتجب وراء كل الاعتقادات ؟
-         يا هيبا, قلت لك مراراً إنني لا أجئ و لا أذهب. أنت الذي تجئ بي, حين تشاء. فأنا آت إليك منك, و بك, و فيك. إنني أنبعث حين تريدني لأصوغ حلمك, أو أمد بساط خيالك, أو أقلب لك ما تدفنه من الذكريات. أنا حامل أوزارك و أوهامك و مآسيك, أنا الذي لا غنى لك عنهو لا غنى لغيرك.
-         الاعتراف طقس بديع, يطهرنا من خطايانا كلها, و يغسل قلوبنا بماء الرحمة الربانية السارية في الكون.
-         الحياة ظالمة. فهي تمتد بنا و تلهينا, ثم تذهلنا عنا و تغيرنا, حتى نصير كأننا غيرنا. هل كنت أنا الذي كنت في الإسكندرية قبل عشرين عاماً ! كيف تحاسبني الحياة الآن, على أخطاء و خطايا اقترفتها أيامها؟ و لماذا سيعود الرب بنا يوم الدينونة, ليحاسبنا على ما فعلناه قبل أمد بعيد, و كأننا عشنا حياة واحدة لم نتبدل خلالها ؟
-         يا حبيبي أنت أجمل خرافة عرفتها, و سوف أظل مؤمنة بها بقية عمري.
-         كانت أستار المساء قد انسدلت, و كنت أشعر بأنني تائه تماماً في أنحاء أوكتافيا, و غارق بالكلية في نهرها الجارف.. كانت تحيط بوجودي من كل الجهات, مثلما يحيط البحر الأعظم بالعالم أجمع.
-         من يدري ان صفاتها هذه سوف تدوم غلى الابد ؟ لا شئ يدوم إلى الابد.. ماذا لو غدرت بي ؟ و النساء بطبعهن غادرات.
-         و لكن مهما كان, فلا يجوز لإنسان إهانة عقائد غيره من الناس, و إلا لهانت كل الاعتقادات و أهينت, و لم يصح أي دين لأي إنسان.
-         هيباتيا.. أكاد إذ أكتب اسمها الآن, أراها أمامي و قد وقفت على منصة الصالة الفسيحة, و كأنها كائن سماوي هبط إلى الأرض من الخيال الإلهي, ليبشر الناس بخبر رباني رحيم. كانت لهيباتيا تلك الهيئة التي تخيلتها دوماً ليسوع المسيح, جامعة بين الرقة و الجلال.. في عينيها زرقة خفيفة و رمادية, و فيها شفافية. في جبهتها اتساع و نور سماوي, و في ثوبها الهفهاف و وقفتها, وقار يماثل ما يحف بالآلهة من بهاء. من أي عنصر نوراني خلقت هذه المرأة ؟.. كانت تختلف عن بقية الناس ! فإن كان الإله خنوم هو الذي ينحت أجسام الناس, فمن أي صلصال طاهر نحتها, و بأي عطر سماوي سبكها؟.. يا إلهي, إنني أجدف.
-         و الفهم أيها الأحبة, و إن كان فعلاً عقلياً, إلا أنه فعل روحي أيضاً. فالحقائق التي نصل إليها بالمنطق و بالرياضيات, إن لم نستشعرها بأرواحنا, فسوف تظل حقائق باردة, أو نظل نحن قاصرين عن إدراك روعة إدراكنا لها..
-         الكراهية ستقتلني, أنا الذي يجب عليه أن يحب أعداءه, و يحسن لمن أساء إليه, كي يكون مسيحياً حقاً.. لم أر المحبة الحقة, إلا في إمرأة وثنية لقيتني صدفة على شاطئ البحر, و أدخلتني جنتها ثلاث ليال سوياً, و أربعة أيام لا تنسى.
-         لما رأيت الأسقف اول مرة, استغربت و احترت, لأنه أطل علينا من مقصورة مذهبة الجدار بالكامل, هي شرفة واحدة, فوقها صليب ضخم من الخشب, معلق عليه تمثال يسوع المصنوع من الجص الملون. من جبهة المسيح المصلوب و يديه و قدميه تتساقط الدماء الملونة بالأحمر القاني.
نظرت إلى الثوب الممزق في تمثال يسوع, ثم إلى الرداء الموشى للأسقف ! ملابس يسوع أسمال بالية ممزقة عن صدره و معظم أعضائه, و ملابس الاسقف محلاة بخيوط ذهبيه تغطيه كله, و بالكاد تظهر وجهه. يد يسوع فارغة من حطام دنيانا, و في يد الاسقف صولجان أظنه, من شدة بريقه, مصنوعاً من الذهب الخالص. فوق رأس يسوع أشواك تاج الآلام, و على رأس الاسقف تاج الأسقفية الذهبي البراق.. بدا لي يسوع مستسلماً و هو يقبل تضحيته بنفسه على صليب الفداء, و بدا لي كيرلس مقبلاً على الإمساك باطراف السماوات و الارض.



No comments:

Post a Comment