من رواية عزازيل للأديب : يوسف زيدان ( الجزء الأول )
-
سوف أعيد دفن هذا الكنز, فإن أوان ظهوره لم
يأت بعد !
-
الرحمة يا إلهي. الرحمة و العفو يا أبانا
الذي في السموات. ارحمني و اعف عني, فاني كما تعلم ضعيف. يا إلهي الرحيم, إن يدي
ترتعشان رهبةً و خيفةً, و قلبي و روحي يرتجفان من تصاريف و عصف هذا الزمان.
-
و أنت وحدك إلهي تعرف اسمي الحقيقي, أنت و
الناس في بلادي الأولى التي شهدت مولدي. ياليتني لم أولد أصلاً, أو ليتني مت في
طفولتي من دون آثام, حتى أضمن عفوك و رحمتك.
-
فإن شئت يا صاحب العزة السماوية و المجد الذي
في الأعالي, أن تدركني بإشارة منك, فإنني مستقبل أمرك و مطيع. و لو تركتني لنفسي,
أضيع.. فقد صارت نفسي معلقة من أطرافها, تتنازعها غوايات عزازيل اللعين.
-
و لعل البدايات كما كان أستاذي القديم
سوريانوس يقول, ما هي إلا محض أوهام نعتقدها. فالبداية و النهاية, إنما تكونان فقط
في الخط المستقيم. و لا خطوط مستقيمةإلا في أوهامنا, أو في الوريقات التي نسطر
فيها ما نتوهمه. أما في الحياة و في الكون كله, فكل شئ دائري يعود إلى ما منه بدأ,
و يتداخل مع ما به اتصل. فليس ثمة بداية و لا نهاية على الحقيقة, و ما ثم إلا
التوالي الذي لا ينقطع, فلا ينقطع في الكون الاتصال, و لا ينفصم التداخل, و لا يكف
التفريغ, و لا الملء و لا التفريغ.. الأمر الواحد يتوالى اتصاله, فتتسع دائرته
لتتداخل مع الأمر الآخر, و تتفرع عنهما دائرة جديدة تتداخل بدورها مع بقية
الدوائر. فتمتلئ الحياة, بأن تكتمل دائرتها, فتفرغ عند انتهائنا بالموت, لنعود إلى
ما منه ابتدأنا.
-
للقسوس الكهنة زوجات ينامون في أحضانهن, أما
نحن الرهبان فننام منفردين, و في معظم الليالي ننام جالسين, أو لا ننام أصلاً
لاستغراقنا في الصلوات و التسبيحات الطويلة.
-
و كتب على الزمان أحداثاً عاينتها, و عانيت
منها, و ما كانت تخطر لي على بال.
-
لماذا انطفأ كل شئ ؟ نور الإيمان الذي كان
يضئ باطني, شموع السكينة التي طالما آنست وحدتي, الاطمئنان إلى جدران هذه الصومعة
الحانية.. حتى شمس النهار, صرت أراها اليوم مطفأة, و موحشة.
-
دخلت أورشليم في حدود الثلاثين من عمري الذي
كان قد أنهكه سفر الجسم و الروح في الأرض و السماوات, و حيرة ارتحال العبين صفحات
الكتب. دخلتها مترنح الخطو مستنداً إلى الهواء.
-
كان قلبي يبتهل طيلة الطريق, راجياً الرب أن
يطهرني من آثار الغرق في بحار الحيرة, و أن يفيض على روحي بالسكينة, و ينعم على
قلبي بالإيمان القويم و نور اليقين.
-
لا أحد يختار, و إنما هي مشيئة السماء تتخلل
الاشياء و الكلمات حتى تصلنا على نحو خفي.
-
من هنا بدا نور السماء,
فأزاح عتمة الأرض, و أراح من الويل الأرواح.
من هنا أشرقت شمس القلوب,
مع ألق المخلص, المتوهج بالرحمة فوق صليب
الفداء.
و ما الصليب ؟
هو قائم القدوسية الرأسي يقاطعه قائم الرحمة.
فلنفتح لأفق الرحمة, ذراعينا, و ننتصب بإزاء
القدوسية.
فنكون صليباً يحمل صليبه,
ويتبع يسوع.
-
يا ولدي, حياتنا مليئة بالآلام و الآثام,
أولئك الجهال أرادوا الخلاص من موروث القهر بالقهر, و من ميراث الاضطهاد
بالاضطهاد, و كنت أنت الضحية. أعرف أن ألمك عظيم, أنا أشعر به, فليشملنا الرب
الرحيم بعطفه.. قم يا ولدي لنصلي معاً صلاة الرحمة.
-
في نور الصبح إنهاك لمن أرقوا ليلتهم, إنهاك
عاينته و عانيت منه طويلاً, و مازلت أعانيه في معظم الأيام.
-
لم يكن الجو حاراً, غير أنني آويت إلى الركن
الظليل. و عند موضعي المعتاد, بالجانب الايمن من الساحة, بعد البوابة الكبيرة,
أسندت مؤخرة رأسي إلى شجرتي الوارفة التي كانت أحب الشجرات هناك إلى قلبي.. غمرني
إجهاد العائد من سفر طويل, و رحت أتوهم بعدما أغمضت عيني, أنني صرت و الشجرة
كياناً واحداً. أحسست بروحي تنسحب من ضلوعي, فتتخلل جذع الشجرة, ثم تغوص في جذورها
العميقة, و تتوغل في قلب فروعها العالية. كان كياني يتمايل مع أوراقها, و يتساقط
بعضي مع سقوط الأوراق من أغصانها. تذكرت وقتها, ما قرأته في أخميم من شذرات
فيثاغورث حيث يقول إنه تذكر في لحظة إشراق كثيراً من حيواته السابقة. منها حياة
كانت روحه فيها شجرة ! تمنيت ساعتها لو اصير شجرة مثل هذه, للأبد, شجرة وارفة
الظلال و غير مثمرة, فلا ترمى بالحجارة, و إنما تهواها القلوب لظلها. هذه البلاد
قاحلة و جفافها شديد, فلو صرت هذه الشجرة ساحنو على الذين يستظلون بي, و سيكون ظلي
رحمةً لهم أمنحها بلا مقابل. سأكونمأوى للمنهكين, لا مطمعاً لطالبي الثمار..
ابتهلت يومها بحرقة الغريب عن دياره و عن ذاته, و ناديت ربي في سري: يا إلهي
الرحيم خذني الآن إليك, خلصني من جشدي الفاني.. هلا ودعت روحي وديعة في هذه الشجرة
الحبيبة, فأزداد تطهراً؛ إذ أحنو كل ظهيرة على زوار هذه البقعة المقدسة من الحجيج
المتطهرين بنورك من آثامهم. سأنتظر في الشتاء سقوط مطلر محبتك للكون, و أستنشق كل
صباح قطرات الندى التي يهبني إياها برد الليل, و لن يشغلني أمر عن تسبيح مجدك
السماوي.. الشجر أنقى من البشر, و أكثر حباً للإله. لو صرت هذه الشجرة, سأنشر ظلي
على المساكين..
-
الله لا يخلق الشر.. و لا يفعله.. و لا يرضى
به, الله كله خير و محبة. لكن أرواح الناس كانت تخطئ الطريق في الأزمنة القديم,
حين يظنون أن العقل كاف لمعرفة الحقيقة, من دون خلاص ياتيهم من السماء.
-
النوم هبة إلهية, لولاها لاجتاح العالم الجنون.
كل ما في الكون ينام, و يصحو و ينام, إلا آثامنا و ذكرياتنا التي لم تنم قط, و لن
تهدأ أبداً..
-
الكتابة تثير في القلب كوامن العواصف و مكامن
الذكريات, و تهيج علينا فظائع الوقائع. في فترات بعيدة من حياتي, و متباعدة, كان
إيماني يؤنسني, و يملأ وجودي غبطة. و اليوم تحيط بي الغيوم من كل جانب, و تهب في
باطني الأعاصير حتى تكاد تقتلعني من الكون كله.
-
امتلأ فراشي شوكاً ملحياً. و لما توغل الليل
البهيم, اختلطت دموعي الدافقة بدعائي الحار: يا إلهي, أغثني بألطافك الخفية
الرحيمة, فآلامي التي لا تنتهي و لا تحتمل. خلصني بفضلك يا أبانا الذي في
السماوات, تقدس اسمك, من حرقة الذكريات العاصفات بقلبي.. هبني يا إلهي, ميلاداً جديداً
أعيش به من غير ذاكرة, أو ارحمني, فاقبضني إليك, و أبعدني عن هذا الكون.
-
غمرتني السعادة فوق صفحة الماء, حتى وقع ما
جرى معي, فجعلني لا أقرب البحر من بعد ذلك أبداً.. فوق صفحة الماء الرقراق, كانت
نبضات الدفء الداخلي تزيح عني برودة قلبي و ارتعاشة أطرافي. و لما حملني البحر,
شعرت بأنني جنين يخرج من رحم هائل. انتابتني الأحاسيس الغريبة, و أخذتني لهفة
اللمس و دغدغة الشهوة. أنا الذي لم أعرف قبلها امرأة في حياتي, و لم أكن أنوي أن
أعرف. غير أنني ساعتها تفكرت في اللذة, و جال ببالي أن البجر امرأة لعوب تمتع
الرجال العائمين, من دون خطية تحسب عليهم أو يحاسبون عليها.. البحر رحمة من الله
للمحرومين, لك المجد يا أرحم الراحمين.
No comments:
Post a Comment