مقاطع من رواية : ( عزازيل ) للمؤلف : يوسف زيدان ( الجزء الرابع )

مقاطع من رواية : ( عزازيل ) للمؤلف : يوسف زيدان ( الجزء الرابع )

انظر إلى عظمة هذه الكنيسة بقلبك فيمتلئ بالايمان, ثم اعرف أن القديسة التي قامت ببنائها, و هي هيلانة أم الإمبراطور قسطنطين, كانت في ابتداء أمرها ساقية في مواخير الرها .. كيف لنا أن نفهم ذلك التحول في سيرة الإمبراطور و أمه, إلا بالقياس على معجزة يسوع المسيح, و المعجزة يا هيبا, تحدث على سبيل الندرة, و نحن نؤمن بوقوعها النادر, ثم نعمل العقل و القياس في الظواهر, حتى نفهمها و نحل تناقضاتها . و هكذا الحال مع بية الأمور: نؤمن, ثم نتعقل, فيتأكد إيماننا .. هذا هو طريقنا .

بينما الرجل يقرأ صلواته, كنت أفكر في موتاي .. إنني لا أعرف قبراً لأبي, و لا أظنه دفن أصلاً ! ربما رمى كهنة المعبد بقاياه في النيل, بعدما اطمأنوا إلى رحيل قاتليه, فأكلتها التماسيح .. فهل رمى الإسكندريون أوكتافيا في البحر, لتأكلها الأسماك, أم دفنوها في تلك المقابر القريب من أطلال الحي الملكي ؟ .. هيباتيا لم تدفن بالطبع, لم يبق منها شئ ليدفن . و لم يأكل دود الموتى شيئاً من جسمها, فقد انتهت مثل شجرة أحرقت فصارت فحماً. الفحم يشعل النار, و الجسم المدفون في الأرض يعيث فيه الدود ! فهل كان الأليق بهيباتيا أن تحرق بعد موتها, كيلا يصير جسدها الكافوري مرتعاً للديدان ؟ .. من أين يأتي الدود ليأكل الموتى ؟ الأطباء القدامى الكبار,, الذين شرحوا الأجسام الحية و الميتة, لم يذكروا في كتبهم وجود دود في الأحياء, فمن أين يأتي الدود بعد الموت؟ هل هو كامن فينا, بحيث لا يظهر إلا بعد موتنا ؟ أهو كامن أيضاً في الفواكه الرطبة, و في الجبن القديم, و في الأجسام الحية! ينتظر موت الكائن و فساد جسمه, كي يحيا على الموت, ثم يموت. يقال إن هذا الدود لا يأكل رفات القديسين و الشهداء ! فهل هي معجزة لهم, أم هي معجزة للدود الذي يفرق بين الأجسام, المقدسة منها و غير المقدسة ؟ .. على أن الدود فيما اظن لا يفرق, و لا يعرف أجساد القديسين من غيرهم, و إلا فهو لا يتطرق أيضاً لأجسام المومياوات المحفوظة ببلادنا في التوابيت العتيقة .. لماذا حفظ المصريون القدماء أجسام موتاهم بسحر أو علم, يمنع عنها الدود ؟ أم ترى أن أجسادهم كانت هي الأخرى مقدسة !

أتراني يوماً سأدفن, فيكون لي قبر كثقب في جدار, مثل هذا الذي قرأ عنده الخادم الصلوات, مستنزلاً الرحمة على أمه و أبيه بعدما صارا تراباً ؟ .. و إن صار لي مثل هذا القبر, فمن عساه يأتي كي يستنزل الرحمات بالصلوات على قبري, و أنا لا أهل و لا ذرية لي ! .. أتراني سأصير يوماً مرتعاً لهذا الدود الأبيض الذي يأكل الموتى, مع أنه لا أسنان له ! أم تراه ابتدأ بالفعل يأكلني, من دون أن أفطن له .. أشفقت على نفسي إذ تذكرت منظره, يوم رأيت في طفولتي بطة ميتةً ميتةً ملقاةً بين الصخور, و كان الدود يصطخب بباطنها . في باطن الأرض إذا حفرناها, نرى الدود ! فهل ماتت الأرض, و الدود ينخر في باطنها من دون أن ندري ؟ حتى يضمحل هذا العالم, و يصير إلى العدم, و نحن غافلون ..

يوم رأيت هذا الدير أول مرة, بدا لي كأنه يقع عند التقاء الأرض بالسماء . كان الأوان آنذاك شتاءً, و كانت نسمات آخر النهار الباردة تمسح عني تعب الرحلة, و تسكب على العالم بهجةً خفية .. صعدنا التلة إلى الدير بجهد زائد من البغلتين, و بأمل يراودني في أن هذه محطتي الأخيرة . كنت قد تعبت من الترحال الدائم, و آن أن أجد لي ملاذاً بقية عمري, فأهنأ بسكينتي حيناً, ثم أموت ميتةً هادئة تنسل فيها روحي من صخب هذا العالم و اضطرابه إلى صفاء السماوات . بدا الدير محطة أخيرة لارتحالي المتتالي, لهجرتي المتوالية التي امتدت حتى تبددت من عندي ألفة كل الأماكن . ظننت أن مشيئة الرب قادتني أخيراً إلى هنا, ثم عرفت مؤخراً أنها كانت ظنون ذات منهكة .

أدركت بعد طول تدبر أن الىلهة على اختلافها, لا تكون في المعابد و الهياكل و الابنية الهائلة, و إنما تحيا في قلوب الناس المؤمنين بها . و مادام هؤلاء يعيشون, فآلهتهم تعيش فيهم, فإن اندثر أولئك انطمر هؤلاء .. مثلما مات الإله خنوم بعد موت أبي, و البقية الباقية من الكهنة الذين كانوا محصورين, في معبده الكبير جنوبي جزيرة ألفنتين . لابد أنهم اليوم جميعاً ميتون, و لابد أن معبدهم قد انهدم, أو صار كنيسةً لإله جديد . المسيح يسوع قال لليهود في أورشليم: اهدموا الهيكل, و سوف أبنيه في ثلاثة أيام . فكذبوه و قدموه للرومان ليصلبوه, لأنهم لم يفهموا أن الهيكل هو ذات يسوع المسيح الذي هدم هيكلهم بالفعل, ثم أعاد بناءه حين قام من موته بعد ثلاثة أيام . نحن أيضاً لم نفهم قول يسوع حين أشار إلى بطرس الرسول و قال: على هذه الصخرة, أبني كنيستي . لأننالم ندرك أن كل كنيسة بنيت أو سوف تبني, فهي لابد أن تقوم على رسولية بطرس و إيمانه الذي لا يعرف الشك, و إن كان يعرف الضعف ! فكما هو مكتوب , أنكر بطرس يسوع المسيح ثلاث مرات في ليلة واحدة, و قد أنبأه يسوع بما سيكون منه, من دون أن ينكر عليه ما سوف يفعله من إنكار له و خنوع عن نصرته . لم يكن يسوع يريد نصرة, بل فداء و تضحية, فبأي شئ كانت النصرة ستفيد, و أي ضرر كان من الإنكار ؟ أنا أنكرت هيباتيا أمام قاتليها, و أنكرت نفسي ثلاثة ايام أمام أوكتافيا, لأنني كنت خائفاً . الخوف صار طبعاً عندي, من يوم قتلوا أبي أمتمي .. و اليوم, لماذا أخاف الموت ؟ خليق بي أن أخاف من الحياة أكثر, فهي أكثر إيلاماً ! و لماذا تتفرق سحب الإيمان من سمائي كل حين . إيماني مثل سحابات الصيف رقيق, و لا ظل له . أنا لن أبني كنيسةً أبداً, و لن تقوم فوقي كنيسة أبداً, لأنني لست صخرة مثل بطرس الرسول, و لأن إيماني مشوب بشكوك كثيرة .

باحتماله الىلام دفع عنا الآثام,
و بالتضحية افتدانا .
بالمحبة نزل, و بالمحبة علا, و بالمحبة رسم الطريق,
فهدى الناس إلى السلام, و أهدى المؤمنين المسرة .
اكتوى بنار الأرض لينزل لنا برد السماء.
أتاح روحه أضحية على الصليب,
ليكفر عن كفرنا, و نخلص إلى خلاصنا.


فالآن أتذكر أيام الصفاء التي هدأت فيها روحي بين أحضان هذا الدير, و أشرفت شموس باطني من أفق الرحمة, حتى أنني نسيت أيامها عذاباتي الاولى و شكوكي و حيرتي الملازمة .. صرت كأنني أعيش بين السحاب, و أكاد أحس من حولي بحفيف أجنحة الملائكة التي تملأ السماء . و عرفت أيامها لأول مرة, سر الرهبنة و نعمة التوحد و صفاء الخلاص من صخب العالم. و تيقنت من أن الدنيا لا قيمة لها, و من انني لما تركتها خلفي, اشتريت أفق الروح الغالي بمتاع البدن الرخيص .   

No comments:

Post a Comment