مقاطع من رواية: ( عزازيل ) للمؤلف يوسف زيدان ( الجزء الخامس )

مقتطفات من رواية: (عزازيل) للمؤلف يوسف زيدان ( الجزء الخامس )

كل الكائنات تحب النزول, و تبتهج له, إلا الإنسان الذي يخدعه وهمه وتحدوه أحلامه, فيبهجه الصعود و الترقي. ربما كان ذلك فطرياً في الإنسان و طبيعي, فهو امتداد للإله العلي. و لذلك تفرحه مراقيه الصاعده به إلى أصله العلوي, حيث الآب  الذي في السماوات.. الآب المحتجب, خلف أستار السماوات.

في اللحظة التي رفعت عيني إلى وجهها, أزاحت غطاء رأسها الذي كان منسدلاً على جبهتها, و عادت خطوتين للوراء. أغمضت عينيها برقةلا مثيل لها, و رفعت وجهها إلى جهة السماء .. و بعد هنيهة من صمت و خشوع, غنت .. يالصوتها الرقراق الذي أتاني صافياًمن بين طيات السحاب. أتاني مطيباً بعبق شجيرات الورد و  روح المروج الخضراء الزكية. غنت: و ارحم ضعفي, كأنها سوف تبكي, ثم قالت: فلا نصير لي سواك ! فارتجف باطني مع ارتجافة شفتيها و هي تطيل النطق بالحروف, فتلامس بنطقها أعالي السماء .. كان غناؤها الشجي نادر العذوبة.
الأطفال الذين كانوا معنا, سكنوا لحظة غنائها تماماً. غابوا مع غنائها, فكأنهم راحوا على أجنحة النغمات, إلى موضع بعيد. و كنت, كأنني وحدي بأقصى  زاوية من الكون الفسيح .. إذ أتذكر الآن تلك اللحظة, أشعر بصوتها الخلاب يأخذني مني, إلى ما وراء الأشياء كلها. و يرن ترجيعه السماوي بين قمم الجبال البعيدة, فيسيل قلبي بين الضلوع .. يا إلهي.
لما أنهت غناءها, ساد صمت عميق. وددت لو أشرت لها لتغني ثانيةً, بل وددت لو ظلت تغني حتى يفنى العالم و تقوم قيامته.

نطقت مرتا كلمة الحنون بتحنان بالغ, و رقة لا حدود لها. حتى انني لم أتمالك نفسي, فرفعت وجهي رغماً عني, و نظرت في قلب عينيها .. رأيت صفاء امتزاج العسلية باللون الاخضر في أحداقها. و رأيت امتداد رموشها الكثيفة, المؤطرة بجمالها جمال استدارة العينين. و رأيت كثافة حاجبيها اللذين أتقن الله صنعهما, فأظهر سوادهما اللامع بياض وجهها النقي. شعرها بحسب ما بدا من أطرافه المنفلتة من غطاء رأسها, كان كحاجبيها فاحم السواد, و لامعاً براقاً .. مرتا آية من آيات الجمال الإلهي في الكون. في وجهها طفولية و نزق, و فيه بهاء صورة العذراء, غير أن نظرتها جريئة جداً, و مربكة لمن هو مثلي.

و بحركة مفاجئة لم أتوقعها, رفعت غطاء رأسها, فانهمر شلال شعرها الأسود الكثيف الناعم. كان شعرها معتقلاً تحت غطاء الرأس, يتوق للتحرر, فلما أحاط بوجهها صارت آية للإبداع الإلهي في خلق الإنسان .. أي جمال ذاك الذي كان مختفياً تحت حجابها, و أية نظرة تلك  التي رأيتها بعينيها. لسعتني نظرتها, و روعني جمالها, ختى كاد يغمى علي من جلال الجمال.

وساعة الظهر فتحت مرتا باب المكتبة من دون أن تطرقه. باغتني صرير الباب, فانتبهت من استغراقي في قراءة كتاب النبض لجالينوس. نظرت ناحية الباب, فرأيتها واقفة على عتبته العالية .. يحيط بها الضوء الداخل من ورائها, فكأنها حورية هبطت إلى الأرض ملفوفة بالنور السماوي لتمنحنا السلام, و تملأ الكون رحمة بعدما لمتلأ جوراً و ظلماً. كان الضوء يؤطرها, يحوطها من كل الجهات, و يطغى على أطرافها, فتبدو و كأنها مغلفة بالنور. لن أنسى هذه اللحظة ما حييت. لم أشعر بيدي إلا و قد أزاحت عني غطاء رأسي الملئ بالصلبان, لأستقبل النور الذي أشرق فجأة من عند الباب. تأكدت لحظتها من أن مرتا هي أجمل امرأة خلقها الرب.
كان رداؤها يمسك بصدرها و خصرها بإحكام حنون, ثم تنساب ثنياته الكثيرة, فتصير كدائرة مركزها قدماها الصغيرتان اللتان اتنعلتا حذاء من لون الرداء. على رأسها منديل حريري لامع, لونه ناصع, يمسك بشعرها من دون أن يخفي من وجهها شيئاً. من جانبي المنديل تدلت ضفيرتان تلامسان بأطرافهما أعلى نقطتين في صدرها. عند طرفي الكتفين ترتفع ثنيات ثوبها المخملي الملمس, الأرجواني اللون, ثم تهبط الثنيات و تنبسط, فتحيط بذراعيها بإحكام. حتى إذا قاربت الأكمام الكفين, اتسعتا ليتغطى ظاهر اليدين بالتطريز المذهب الذي يؤطر الأكمام و ذيل الفستان و أطراف منديل الرأس .. تركتني مرتا برهة أتاملها, و قد أمالت رأسها برقة جهة اليمين, و أسندت كفيها المضمومتين على طرفي خصرها. مختالة الخطو و الابتسام أقبلت نحوي, و قد أمسكت ثوبها الفضفاض بأطراف أصابعها من عند الفخذين, و رفعته قليلاً فكان ذيل الثوب المؤطر بالخيوط الذهبية, تتراقص ثنياته المخملية مع خطواتها الرشيقة التي تطير بها نحوي ..

لما اقتربت مرتا يومها مني, رفعت وجهي إلى صدرية الرداء .. تاه ناظري في الازرار الكثيرة المصطفة في خطين يرتفعان مع طرفي الصدرية, من موضع السرة إلى منبت العنق, و يعتقلان في طريقهما امتلاء النهدين .. و لما اقتربت مني أكثر, دارت رأسي عند ارتقاء عنقها نحو ذقنها الدقيق. و لم أستطع الارتقاء بناظري, حتى أغوص بقلب عينيها .. و أظنها أدركت لحظتها عذاباتي, فزادتها بابتسامة صافية. رفعت نظري إلى الغمازتين اللتين بقلب الخدين .. و لما نظرت أخيراً في عينيها, غصت في بحر عميق من العسل.

كانت مرتا إذا غنت ازدادت بهاء, و إذا انهمكت في الغناء رفعت ذقنها الدقيق, و أغمضت عينيها, فصارت كأنها تناجي السماء. غناؤها يومها سرى بخدر في ظاهر بدني, ثم غاص في باطني. و أخذني صوتها إلى أفق بعيد لا نهاية له, ثم راح يؤرجحني, و يملؤني شجناً على شجن, حتى أذهلني عني .. حين انتهت من غنائها, كنت قد انتهيت.

هي أيضاً كانت تنظر ناحيتي, و على وجهها ابتسامةغامضة, تزيد سحر وجهها سحراً .. كان يجب علي أن أتكلم بأي شئ, لكن الحروف فرت من طرف لساني. كنت أقول في نفسي, إن جمالها ظالم لمن يعرفه, ظالم لأنه أعمق من أن يحتمل و أبعد عن أن ينال.

يا إلهي, أعرف أنك تعاقبني على خطيئتي, فارحمني .. إني معترف بكل ما اقترف قلبي من اشتياق, و بكل ما خالفت من الوصايا و الأحكام الثابتة, و تناسيت المكتوب في إنجيل متى: كل من نظر إلى امرأة يشتهيها فقد زنى بها في قلبه, فإن قادتك لذلك عينك اليمنى, فاقلعها و ألقها عنك, فإنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك, و لا يلقى جسدك كله في جهنم.
يا إلهي, أعرف أنني أخطأت, فأدركني بعفو منك يا رحيم, و لا تلق بي في جحيمك من الآن. إن النار تشتعل في, تشتعل بي, فصيرني رماداً أو هباءً منثوراً على الطرقات. ارحمني, فإنني ما عدت أحتمل العذاب المقيم. أنا يا إلهي مسكين, منكسر, وديع. إنني محزون و أنت رحيم, و قد قال يسوع المخلص, في أول عظة ألقاها على الناس: طوبى للمساكين بالروح, فإن لهم ملكوت السماوات. طوبى للودعاء, فإنهم يرثون الأرض. طوبى للحزانى, فإنهم يتعزون. و أنا يا إلهي, لا أطمح إلى ملكوت السماء, و لا وراثة الأرض, و لا حتى العزاء. كل ما أرجوه, أن ينطفئ اللهب الساري بين ضلوعي, و أن تذهب عني الآلام التي ألقت بي في هذا الركن منبوذاً, مهاناً ..



No comments:

Post a Comment