مقتطفات من رواية: (عزازيل) للمؤلف يوسف
زيدان (الجزء السادس)
جلست من دون أن أنظر نحوها. كادت دموعي تسيل,
فغالبتها حتى حبستها. ظلت مرتا صامتةً .. و لما طال بنا الصمت نظرت نحوها, فوجدت
في عينيها دمعاً كثيراً يكاد ينسكب. كانت تنظر ناحية ركبتها اليسرى, و قد انسدل
على جانبي وجهها خمارها الحريري الشفاف, الأسود كلون ردائها الواسع .. اسوداد
ملابسها زاد من إشراق بياض وجهها بملامحه الطفولية البريئة. بعد ثوان من التأمل
فيها, شعرت بأنها من النقاء بحيث لا يمكن أن تأتي الفعل الفاحش الذي أظنه, فإنها
لوكانت من أهل الفحش, لكان الرب قد سلبها هذه الهيئة الملائكية, و كساها هيئة
الفاحشات. و لو كانت امرأة لاهية, لما اهتمت باللحاق بي و الجلوس أمامي بهذا الصمت
البرئ الذي يضوع بعطر الطهر, و لا صح لها هذا الحضور المريمي الآسر للروح..
للمحبة في النفس أحوال شداد, و أهوال لا قبل
لي بها, و لا صبر لي عليها و لا احتمال ! و كيف لإنسان أن يحتمل تقلب القلب ما بين
أودية الجحيم اللاهبة و روض الجنات العطرة .. أي قلب ذاك الذي لن يذوب, إذا توالت
عليه نسمات الوله الفواحة, ثم رياح الشوق اللافحة, ثم أريج الأزهار, ثم فيح النار,
ثم أرق الليل و قلق النهار. ماذا أفعل مع محبتي بعدما هب إعصارها, فعصف بي من حيث
لم أتوقع ؟ هل أنا فرح بحب مرتا أم أنني أحشاه ؟ .. سيقولون إنني غررت بها, و
سيقولون بل هي غررت به ! لن أنجو من هذا الحب الذي قدحت مرتا زناده بكلمة واحدة,
فصار عشقاً.. و أنا لا خبرة لي بارتياد بلاد العشق.
ارتقيت نحو بوابة الدير محلقاً بمحبتي, بل
محمولاً على أطراف أجنحة الملائكة. جزت الساحة مسرعاً, متحاشياً لقاء أحد حتى لا
أسمع أي كلمة من أي إنسان, بعد ما سمعته منها.. صعدت إلى صومعتي و رنات قولها أحبك
جداً تجول في ارجائي. أغمضت عيني على صدى الكلمتين, حتى أحبسهما بداخلي.. أخذني
للنوم خدر جميل, و امتلأت ليلتي بالأحلام المؤطرة بالأفراح. لم تغب مرتا عن حلم
واحد منها. في الصباح كنت شخصاً آخر, غير الذي عرفته في نفسي طيلة السنين التي
فاتت من عمري.
التقت عينانا في عناق حار, غبت خلاله عن كل
ما حولي, و أظنها أيضاً كانت غائبة. لم نشعر بمرور الوقت مع التحام النظرات
الولهى, فبقينا ساكنين, غارقين فيما نحن فيه.
شعرت بها قريبة الموضع مني, فلم يكن يفصلنا
إلا مقدار ما أمد ذراعي نحوها و بمد ذراعها, فتتماس أناملنا, و قد نلتحم, فيتدفق
فينا نور واحد, يلفنا حتى نغيب عن كل العوالم. ساعتها تماوج قلبي و غاب عقلي, و
لولا بقية من وجل لتعجلت الأجل, و أطلقت روحي من سجن البدن لتحلق في العوالم
السرمدية, و لا تعود أبداً لهذا الجسد الفاني و توقه المعذب.
لم استطع منع ابتسامتي, فاتسعت ابتسامتها, و
اشتدت توهجات الروح في عينيها. التفتت ناحيتي بكلها, فالتصق نظري بصدرها. لم أستطع
تحويل عيني عن الموضع الذي أود أن أميل برأسي عليه, و لم تنزعج هي من ثبات نظرتي
على الموضع المحرم. لعلها ارادت ان تبيح لي هذا الحرم, لتهدئ الاحزان التي تستبد
بروحي منذ سنين, و تنهي زمن الحرمان.. آه لو ملت برأسي يومها على صدرها. كان يجب
أن أجثو أمامها, اضع راسي بين نهديها, و تضمني إليها, فأخبو فيها و أموت.
سكتت برهة و هي تنظر في اتجاه ركبتها اليسرى.
راحت بخيالها نحو ذكريات بعيدة, مؤلمة, و رحت أنظر بحنو إلى خديها و أهداب رموشها
الطويلة. لما انسال من عينيها خطان جديدان من الدمع, و اكتسى خداها بحمرة خفيفة,
صار لوجهها سمت بتولي يذهب بصفائه العقل, و يعصر القلب. وددت لو لو أضمها, لكني
ترددت, ثم استسلمت لترددي. آه لو أنني يومها قمت, فمسحت خديها الناعمين بباطن كفي,
ثم ضممت صدرها لصدري, و مسحت بيدي على شعرها و أغمضت عيني, و رحت أتنفس الهواء
المطيب بنسيم باطنها .. كانت ستميل إلى صدري براسها, فأحيطها بذراعي حتى أدخلها
في, و نسكن .. نثبت .. نصير تمثالاً من الرخام الأبيض, تكون فيه آيات للناس.
قدمت لنا الخالة مشروباً بارداً, لا أتذكر
الىن ماذا كان, لكنني أذكر أنه كان طيب المذاق, و أنني كنت أرتشف منه, بينما تنهل
عيناي من بحر العسل المنسكب منذ الأزل, في أحداق مرتا الفاتنة, الجالسة أمامي على
الأرض و قد كشفت فتحة صدر جلبابها, عن انضمامة نهديها .. التصقت عيناي, فلم أستطع
لهما حولاً حتى انتبهت مرتا إلى ذهولي, فضمت فتحة صدرها بكلتا يديها, باسمة, و
ناظرة بدلال نحوي, و هي تعض بأسنانها العليا شفتها السفلى.
أدركت مرتا اشتياقي لها, فأتت نحوي باسمة ..
من دون أن تقول شيئاً, حتى كاد صدرها يلامس وجهي. لما أحاطت بكفيها رأسي لتميلها
إلى صدرها, انتشيت. ضممتها بقوة و انا بعد جالس, فتأوهت في أذني. رفعت عن ساقيها
ثوبها, بكلتا يدي, فأسلت هي الثوب من عند كتفيها, بكلتا يديها. وقفت مرتا امامي
عارية تماماً, و نثرت بأناملها شعرها, فانخطف قلبي من سطوة الجمال.. ألقيت عني
ثوبي, ز كان بيننا ما يكون بين الرجل و المرأة, حين يطرحان رداء الحياء.
سألت نفسي ساعتها: أترانا تردد في كل
صلواتنا, اسم الإله المصري القديم, آمون, مازجين في اسمه بين الواو و الياء ؟ .. و
سألت نفسي: لماذا تعود إلى مصر دوماً أصول الأشياء كلها, لا أصول الديانة فحسب ؟
.. و سألت: لماذا لا أعود إلى بلادي الأولى للعيش هناك, مادمت لم أعد صالحاً لحياة
الرهبنة !
اعتراني حنين مفاجئ إلى النيل الممتد كذراع
الإله في الأرض, و كأن دلتاه كفه و أصابعه. تذكرت المركب الشراعي التي حملتني على
صفحته, و هجوع النجوع و القرى على ضفتيه, و ميل فروع الشجر إلى حافته, و الخضرة
الممتدة بالحقول إلى نهاية البصر, و هياج العصافير بالأهازيج ساعة الفجر و عند
الغروب .. أه يا مصر البعيدة. كادت دمعة تفر من عيني, و كاد الحنين يأخذني ممن
حولي ..
كلمة الله اتحد اقنومياً بالجسد, فهو إله
الكل و رب الجميع, و ليس عبداً لنفسه و لا سيداً لنفسه, هو مثلنا مولود تحت
الناموس, مع أنه أعطى الناموس, كإله .. هو اقنوم واحد, شخص واحد, طبيعة واحدة,
إنسان و إله, ابن و رب .. و حيث إن العذراء القديسة ولدت جسدياً, الله متحداً
بالجسد حسب الأقنوم, فهي والدة الإله ..
الحرب يا هيبا روح يسري في الناس, يغمرهم,
يحتقن فيهم و يمور, فلا يهدأ حتى يفجرهم, و ينشب بينهم النزاع فيفشلون, و تذهب
ريحهم و تتمزق روحهم .. الحرب .. هل كان يسوع المسيح يقصدها, حين قال إنه جاء
ليلقي في الارض سيفاً ؟