إبتهالات عاشق منطلق الجناح للكاتب: أشرف كميل-الجزء الثاني

إبتهالات عاشق منطلق الجناح-2

أشرف كميل

حرف الباء

-بارحت هواك مسافراً إلى عشقك فلا تعدميني رمياً بسهام عينيك.
-بتول هي كلمة العشق بين شفتيك و حتى أذناي حرمت من مداعبة حروفها.
-بثينة أنت و جميل أنا... مفردات جمالي من إرهاصات جنونك.
-بجمالك وجدت للجمال تعريف و معنى فأنت مفردات الحسن و حروفه.
-بحار أنا على سفين العشق و لكني مازلت أجهل حدود بحر عينيك.
-بخيل.. بخيل.. بخيل.. من يشهد جماك و لا يركع شكراً لمن صورك.
-بدواء الصبر يبرأ من أصابه العشق و عشقك يعصى على كل صبر جميل.
-بذكراك تعتريني لوثة من جنون.. لذا صرت بين الناس مثلاً و آية للجنون.
-برعمي نهديك مازلا يقنعاني بأني جاهل بثورات الشهوة.
-بزغت كالفجر بعد ليلي الطويل... فصرت ليلة فجرها بعيد المنال.
-بسمة من شفتيك تساوي عمري بأكمله و نظرة من عينيك تجدد كل خلايا تكويني.
-بشرى سارة.. سيقام مهرجان عشقك على ضفاف شراييني.
-بصرت و نجمت كثيراً... لكني لم أعرف عشقاً يعصف بالقلب مثل عشقك و طغيانك.
-بضة أنت كالحلم السابح في زبد الموج.
-بطوق الياسمين طوقتك... بقيد العشق أسرتيني.
-بظنك هل تعتقدين أنه من الجنون التورط فيك حتى العشق و حتى التلاشي؟
-بعيداً عنك... قلبي لا حياة فيه.. و قريباً منك...قلبي مشنوق بين نهديك.
-بغير حبك أنا في حالة إنتظار... أنتظر هواك ليجعلني في حالة إنفجار.
-بفرح القلب يشهد المحيا . و على عشقي لك يشهد كل الكون.
-بقائي فيك هو المعنى الحقيقي للبقاء و التلاشي فيك هو الولادة من جديد.
-بكرت إليك لأكون أول من تراه عيناك. فقلت لي: أنا طوال العمر لا أرى سواك.
-بلائي أني عشقتك و أنا غير مهيئ لعشق مزيج من كل النساء.
-بمراسم البهجة توجتك فوق عرش قلبي فأنت قد حصلت عليه بإكتساح.
-بنيت لك ألف بيت على ضفاف شراييني و لكنك أبيت إلا أن تعيشي في عيني.
-بهية أنت كألف ربيع. مشرقة أنت كشمس تجاورني.
-بورك فيك. أعطيتني حباً لم و لن يتكرر . لأني أنا الذي زرعته بين ضلوعك.
-بيت هوانا هو الكون بأكمله... كل ما فيه يردد ترانيم محبتنا.



إبتهالات عاشق منطلق الجناح للكاتب أشرف كميل-الجزء الأول


إبتهالات عاشق منطلق الجناح-1

أشرف كميل

حرف الألف

-         إبتهالات حنجرتي في أعماق قلبك هي التي بدأت عصر تأريخ العشق.
-         أتيت إليك أم أتيت إلي سيان... فكل طرقك أوردة تؤدي إلى شغاف قلبي.
-         أثني بكلماتي العاجزة عن وصف بهائك فتعود إلي كأجمل قصائد الهوى.
-         أجمل ما في تكوينك أني طلبت من الله أن يكونك على هذه الروعة.
-         إحتمال العشق و لوعته نعمة لم يرد الخالق منحها لمن يعشق مثل بهاءك.
-         اختلط علي الأمر من شدة تباريح الهوى فصرت لا أعرف هل أنت أنا أم أنا أنت.
-         أدعو الله في كل يوم أن يعوضني عن حبك بعشقك و أن يشفيني من هواك بالتوله فيك.
-         أذكرك كلما غبت عني لذا لم يحدث أبداً أني ذكرتك.
-         أراك في الشمس و أراك في القمر و أحس بك تسبحين في شراييني.
-         أزرع إبر النوم تحت الجلد فحلاوتك الزائدة تمثل خطراً على صحتي.
-         اسمك حرف و اسمك ألف حرف اسمك من لغة لا يتقنها سواي.
-         اشتم رائحتك... ما هذا المزيج المزلزل للكيان: عبير الزهور..رائحة المانجو... أريج الربيع...رائحة البرتقال...عبق البن...زخم البهارات....العطر النوبي و أريج الورود.
-         أصلي في محرابك كل لحظة.. أصوم فلا يشبعني إلا هواك و لا يرويني إلا عشقك فأين نصيبي في فردوسك إذا كنت تعدلين.
-         أضرب القلب عن الخفقان إلا لعشقك فلم تنظري لمطالب قلبي الضعيف إذا لابد لي من ثورة تخلعك من على عرش كل المحبين و تسجنك في سجن عيني و وجداني.
-         أطلب من الله أن يرفع ظلم جمالك عني و أتمني ألا يسمع لدعواي.
-         أظلم حسنك إذا وضعته في حيز الكلمات .. كيف تطلبين مني أن أضع الشمس في بوتقة صغيرة ؟
-         أعرف أن من العشق ما قتل. و لكن ما عشقك هذا الذي عند كل يوم يقتلني و يحييني؟
-         إغتلت قلبي طوال عشرين سنة و الجرم ثابت عليك و لكني حصلت لك على البراءة.
-         إفرحي فأنا شرعت أن أقبلك مرة أخرى قبل أن تنتهي القبلة الأولى.
-         إقرأي لي الفنجان لن تجدي فيه إلا إسمك . وشوشي الودع سيخبرك أن البحر لا يعد شيئاً بجانب عشقك.
-         أكثرت من طغيانك على قلبي فلم أشكو.. أشكوك لمن و أنا لا أرى في الكون سواك.
-         ألم على ألم جرح هواك.. و موت على موت إعدامي بالفراق.
-        
أميل على صدرك فأسمع إسمي يتردد في أعماق قلبك.. و أحس بأرنبين لطيفين يداعبان وجهي.
-         أنا.. من أنا بدون هواك فأنت تكتبين تاريخي و حيث لا تاريخ يتلاشى الإنسان و يبقى الحجر.
-         أهواك و لا أعرف ما الهوى بدونك.. و لا أعرف كلمة حب دون أن تتصل بها الكاف في نهايتها.
-         أول نبضات قلبي كانت تنادي اسمك و أجابني الكون: إنتظر فهي لم تولد بعد.
-         أيامي التي مرت قبل أن تولدي كانوا يعرفون أني مازلت حياً بأني كنت أنتظرك بلهفة..... و كنت.... أتنفس.

مقاطع من رواية: ( عزازيل ) للمؤلف: يوسف زيدان ( الجزء السادس )

مقتطفات من رواية: (عزازيل) للمؤلف يوسف زيدان (الجزء السادس)

جلست من دون أن أنظر نحوها. كادت دموعي تسيل, فغالبتها حتى حبستها. ظلت مرتا صامتةً .. و لما طال بنا الصمت نظرت نحوها, فوجدت في عينيها دمعاً كثيراً يكاد ينسكب. كانت تنظر ناحية ركبتها اليسرى, و قد انسدل على جانبي وجهها خمارها الحريري الشفاف, الأسود كلون ردائها الواسع .. اسوداد ملابسها زاد من إشراق بياض وجهها بملامحه الطفولية البريئة. بعد ثوان من التأمل فيها, شعرت بأنها من النقاء بحيث لا يمكن أن تأتي الفعل الفاحش الذي أظنه, فإنها لوكانت من أهل الفحش, لكان الرب قد سلبها هذه الهيئة الملائكية, و كساها هيئة الفاحشات. و لو كانت امرأة لاهية, لما اهتمت باللحاق بي و الجلوس أمامي بهذا الصمت البرئ الذي يضوع بعطر الطهر, و لا صح لها هذا الحضور المريمي الآسر للروح..

للمحبة في النفس أحوال شداد, و أهوال لا قبل لي بها, و لا صبر لي عليها و لا احتمال ! و كيف لإنسان أن يحتمل تقلب القلب ما بين أودية الجحيم اللاهبة و روض الجنات العطرة .. أي قلب ذاك الذي لن يذوب, إذا توالت عليه نسمات الوله الفواحة, ثم رياح الشوق اللافحة, ثم أريج الأزهار, ثم فيح النار, ثم أرق الليل و قلق النهار. ماذا أفعل مع محبتي بعدما هب إعصارها, فعصف بي من حيث لم أتوقع ؟ هل أنا فرح بحب مرتا أم أنني أحشاه ؟ .. سيقولون إنني غررت بها, و سيقولون بل هي غررت به ! لن أنجو من هذا الحب الذي قدحت مرتا زناده بكلمة واحدة, فصار عشقاً.. و أنا لا خبرة لي بارتياد بلاد العشق.

ارتقيت نحو بوابة الدير محلقاً بمحبتي, بل محمولاً على أطراف أجنحة الملائكة. جزت الساحة مسرعاً, متحاشياً لقاء أحد حتى لا أسمع أي كلمة من أي إنسان, بعد ما سمعته منها.. صعدت إلى صومعتي و رنات قولها أحبك جداً تجول في ارجائي. أغمضت عيني على صدى الكلمتين, حتى أحبسهما بداخلي.. أخذني للنوم خدر جميل, و امتلأت ليلتي بالأحلام المؤطرة بالأفراح. لم تغب مرتا عن حلم واحد منها. في الصباح كنت شخصاً آخر, غير الذي عرفته في نفسي طيلة السنين التي فاتت من عمري.

التقت عينانا في عناق حار, غبت خلاله عن كل ما حولي, و أظنها أيضاً كانت غائبة. لم نشعر بمرور الوقت مع التحام النظرات الولهى, فبقينا ساكنين, غارقين فيما نحن فيه.

شعرت بها قريبة الموضع مني, فلم يكن يفصلنا إلا مقدار ما أمد ذراعي نحوها و بمد ذراعها, فتتماس أناملنا, و قد نلتحم, فيتدفق فينا نور واحد, يلفنا حتى نغيب عن كل العوالم. ساعتها تماوج قلبي و غاب عقلي, و لولا بقية من وجل لتعجلت الأجل, و أطلقت روحي من سجن البدن لتحلق في العوالم السرمدية, و لا تعود أبداً لهذا الجسد الفاني و توقه المعذب.

لم استطع منع ابتسامتي, فاتسعت ابتسامتها, و اشتدت توهجات الروح في عينيها. التفتت ناحيتي بكلها, فالتصق نظري بصدرها. لم أستطع تحويل عيني عن الموضع الذي أود أن أميل برأسي عليه, و لم تنزعج هي من ثبات نظرتي على الموضع المحرم. لعلها ارادت ان تبيح لي هذا الحرم, لتهدئ الاحزان التي تستبد بروحي منذ سنين, و تنهي زمن الحرمان.. آه لو ملت برأسي يومها على صدرها. كان يجب أن أجثو أمامها, اضع راسي بين نهديها, و تضمني إليها, فأخبو فيها و أموت.

سكتت برهة و هي تنظر في اتجاه ركبتها اليسرى. راحت بخيالها نحو ذكريات بعيدة, مؤلمة, و رحت أنظر بحنو إلى خديها و أهداب رموشها الطويلة. لما انسال من عينيها خطان جديدان من الدمع, و اكتسى خداها بحمرة خفيفة, صار لوجهها سمت بتولي يذهب بصفائه العقل, و يعصر القلب. وددت لو لو أضمها, لكني ترددت, ثم استسلمت لترددي. آه لو أنني يومها قمت, فمسحت خديها الناعمين بباطن كفي, ثم ضممت صدرها لصدري, و مسحت بيدي على شعرها و أغمضت عيني, و رحت أتنفس الهواء المطيب بنسيم باطنها .. كانت ستميل إلى صدري براسها, فأحيطها بذراعي حتى أدخلها في, و نسكن .. نثبت .. نصير تمثالاً من الرخام الأبيض, تكون فيه آيات للناس.

قدمت لنا الخالة مشروباً بارداً, لا أتذكر الىن ماذا كان, لكنني أذكر أنه كان طيب المذاق, و أنني كنت أرتشف منه, بينما تنهل عيناي من بحر العسل المنسكب منذ الأزل, في أحداق مرتا الفاتنة, الجالسة أمامي على الأرض و قد كشفت فتحة صدر جلبابها, عن انضمامة نهديها .. التصقت عيناي, فلم أستطع لهما حولاً حتى انتبهت مرتا إلى ذهولي, فضمت فتحة صدرها بكلتا يديها, باسمة, و ناظرة بدلال نحوي, و هي تعض بأسنانها العليا شفتها السفلى.

أدركت مرتا اشتياقي لها, فأتت نحوي باسمة .. من دون أن تقول شيئاً, حتى كاد صدرها يلامس وجهي. لما أحاطت بكفيها رأسي لتميلها إلى صدرها, انتشيت. ضممتها بقوة و انا بعد جالس, فتأوهت في أذني. رفعت عن ساقيها ثوبها, بكلتا يدي, فأسلت هي الثوب من عند كتفيها, بكلتا يديها. وقفت مرتا امامي عارية تماماً, و نثرت بأناملها شعرها, فانخطف قلبي من سطوة الجمال.. ألقيت عني ثوبي, ز كان بيننا ما يكون بين الرجل و المرأة, حين يطرحان رداء الحياء.

سألت نفسي ساعتها: أترانا تردد في كل صلواتنا, اسم الإله المصري القديم, آمون, مازجين في اسمه بين الواو و الياء ؟ .. و سألت نفسي: لماذا تعود إلى مصر دوماً أصول الأشياء كلها, لا أصول الديانة فحسب ؟ .. و سألت: لماذا لا أعود إلى بلادي الأولى للعيش هناك, مادمت لم أعد صالحاً لحياة الرهبنة !
اعتراني حنين مفاجئ إلى النيل الممتد كذراع الإله في الأرض, و كأن دلتاه كفه و أصابعه. تذكرت المركب الشراعي التي حملتني على صفحته, و هجوع النجوع و القرى على ضفتيه, و ميل فروع الشجر إلى حافته, و الخضرة الممتدة بالحقول إلى نهاية البصر, و هياج العصافير بالأهازيج ساعة الفجر و عند الغروب .. أه يا مصر البعيدة. كادت دمعة تفر من عيني, و كاد الحنين يأخذني ممن حولي ..

كلمة الله اتحد اقنومياً بالجسد, فهو إله الكل و رب الجميع, و ليس عبداً لنفسه و لا سيداً لنفسه, هو مثلنا مولود تحت الناموس, مع أنه أعطى الناموس, كإله .. هو اقنوم واحد, شخص واحد, طبيعة واحدة, إنسان و إله, ابن و رب .. و حيث إن العذراء القديسة ولدت جسدياً, الله متحداً بالجسد حسب الأقنوم, فهي والدة الإله ..


الحرب يا هيبا روح يسري في الناس, يغمرهم, يحتقن فيهم و يمور, فلا يهدأ حتى يفجرهم, و ينشب بينهم النزاع فيفشلون, و تذهب ريحهم و تتمزق روحهم .. الحرب .. هل كان يسوع المسيح يقصدها, حين قال إنه جاء ليلقي في الارض سيفاً ؟  

مقاطع من رواية: ( عزازيل ) للمؤلف يوسف زيدان ( الجزء الخامس )

مقتطفات من رواية: (عزازيل) للمؤلف يوسف زيدان ( الجزء الخامس )

كل الكائنات تحب النزول, و تبتهج له, إلا الإنسان الذي يخدعه وهمه وتحدوه أحلامه, فيبهجه الصعود و الترقي. ربما كان ذلك فطرياً في الإنسان و طبيعي, فهو امتداد للإله العلي. و لذلك تفرحه مراقيه الصاعده به إلى أصله العلوي, حيث الآب  الذي في السماوات.. الآب المحتجب, خلف أستار السماوات.

في اللحظة التي رفعت عيني إلى وجهها, أزاحت غطاء رأسها الذي كان منسدلاً على جبهتها, و عادت خطوتين للوراء. أغمضت عينيها برقةلا مثيل لها, و رفعت وجهها إلى جهة السماء .. و بعد هنيهة من صمت و خشوع, غنت .. يالصوتها الرقراق الذي أتاني صافياًمن بين طيات السحاب. أتاني مطيباً بعبق شجيرات الورد و  روح المروج الخضراء الزكية. غنت: و ارحم ضعفي, كأنها سوف تبكي, ثم قالت: فلا نصير لي سواك ! فارتجف باطني مع ارتجافة شفتيها و هي تطيل النطق بالحروف, فتلامس بنطقها أعالي السماء .. كان غناؤها الشجي نادر العذوبة.
الأطفال الذين كانوا معنا, سكنوا لحظة غنائها تماماً. غابوا مع غنائها, فكأنهم راحوا على أجنحة النغمات, إلى موضع بعيد. و كنت, كأنني وحدي بأقصى  زاوية من الكون الفسيح .. إذ أتذكر الآن تلك اللحظة, أشعر بصوتها الخلاب يأخذني مني, إلى ما وراء الأشياء كلها. و يرن ترجيعه السماوي بين قمم الجبال البعيدة, فيسيل قلبي بين الضلوع .. يا إلهي.
لما أنهت غناءها, ساد صمت عميق. وددت لو أشرت لها لتغني ثانيةً, بل وددت لو ظلت تغني حتى يفنى العالم و تقوم قيامته.

نطقت مرتا كلمة الحنون بتحنان بالغ, و رقة لا حدود لها. حتى انني لم أتمالك نفسي, فرفعت وجهي رغماً عني, و نظرت في قلب عينيها .. رأيت صفاء امتزاج العسلية باللون الاخضر في أحداقها. و رأيت امتداد رموشها الكثيفة, المؤطرة بجمالها جمال استدارة العينين. و رأيت كثافة حاجبيها اللذين أتقن الله صنعهما, فأظهر سوادهما اللامع بياض وجهها النقي. شعرها بحسب ما بدا من أطرافه المنفلتة من غطاء رأسها, كان كحاجبيها فاحم السواد, و لامعاً براقاً .. مرتا آية من آيات الجمال الإلهي في الكون. في وجهها طفولية و نزق, و فيه بهاء صورة العذراء, غير أن نظرتها جريئة جداً, و مربكة لمن هو مثلي.

و بحركة مفاجئة لم أتوقعها, رفعت غطاء رأسها, فانهمر شلال شعرها الأسود الكثيف الناعم. كان شعرها معتقلاً تحت غطاء الرأس, يتوق للتحرر, فلما أحاط بوجهها صارت آية للإبداع الإلهي في خلق الإنسان .. أي جمال ذاك الذي كان مختفياً تحت حجابها, و أية نظرة تلك  التي رأيتها بعينيها. لسعتني نظرتها, و روعني جمالها, ختى كاد يغمى علي من جلال الجمال.

وساعة الظهر فتحت مرتا باب المكتبة من دون أن تطرقه. باغتني صرير الباب, فانتبهت من استغراقي في قراءة كتاب النبض لجالينوس. نظرت ناحية الباب, فرأيتها واقفة على عتبته العالية .. يحيط بها الضوء الداخل من ورائها, فكأنها حورية هبطت إلى الأرض ملفوفة بالنور السماوي لتمنحنا السلام, و تملأ الكون رحمة بعدما لمتلأ جوراً و ظلماً. كان الضوء يؤطرها, يحوطها من كل الجهات, و يطغى على أطرافها, فتبدو و كأنها مغلفة بالنور. لن أنسى هذه اللحظة ما حييت. لم أشعر بيدي إلا و قد أزاحت عني غطاء رأسي الملئ بالصلبان, لأستقبل النور الذي أشرق فجأة من عند الباب. تأكدت لحظتها من أن مرتا هي أجمل امرأة خلقها الرب.
كان رداؤها يمسك بصدرها و خصرها بإحكام حنون, ثم تنساب ثنياته الكثيرة, فتصير كدائرة مركزها قدماها الصغيرتان اللتان اتنعلتا حذاء من لون الرداء. على رأسها منديل حريري لامع, لونه ناصع, يمسك بشعرها من دون أن يخفي من وجهها شيئاً. من جانبي المنديل تدلت ضفيرتان تلامسان بأطرافهما أعلى نقطتين في صدرها. عند طرفي الكتفين ترتفع ثنيات ثوبها المخملي الملمس, الأرجواني اللون, ثم تهبط الثنيات و تنبسط, فتحيط بذراعيها بإحكام. حتى إذا قاربت الأكمام الكفين, اتسعتا ليتغطى ظاهر اليدين بالتطريز المذهب الذي يؤطر الأكمام و ذيل الفستان و أطراف منديل الرأس .. تركتني مرتا برهة أتاملها, و قد أمالت رأسها برقة جهة اليمين, و أسندت كفيها المضمومتين على طرفي خصرها. مختالة الخطو و الابتسام أقبلت نحوي, و قد أمسكت ثوبها الفضفاض بأطراف أصابعها من عند الفخذين, و رفعته قليلاً فكان ذيل الثوب المؤطر بالخيوط الذهبية, تتراقص ثنياته المخملية مع خطواتها الرشيقة التي تطير بها نحوي ..

لما اقتربت مرتا يومها مني, رفعت وجهي إلى صدرية الرداء .. تاه ناظري في الازرار الكثيرة المصطفة في خطين يرتفعان مع طرفي الصدرية, من موضع السرة إلى منبت العنق, و يعتقلان في طريقهما امتلاء النهدين .. و لما اقتربت مني أكثر, دارت رأسي عند ارتقاء عنقها نحو ذقنها الدقيق. و لم أستطع الارتقاء بناظري, حتى أغوص بقلب عينيها .. و أظنها أدركت لحظتها عذاباتي, فزادتها بابتسامة صافية. رفعت نظري إلى الغمازتين اللتين بقلب الخدين .. و لما نظرت أخيراً في عينيها, غصت في بحر عميق من العسل.

كانت مرتا إذا غنت ازدادت بهاء, و إذا انهمكت في الغناء رفعت ذقنها الدقيق, و أغمضت عينيها, فصارت كأنها تناجي السماء. غناؤها يومها سرى بخدر في ظاهر بدني, ثم غاص في باطني. و أخذني صوتها إلى أفق بعيد لا نهاية له, ثم راح يؤرجحني, و يملؤني شجناً على شجن, حتى أذهلني عني .. حين انتهت من غنائها, كنت قد انتهيت.

هي أيضاً كانت تنظر ناحيتي, و على وجهها ابتسامةغامضة, تزيد سحر وجهها سحراً .. كان يجب علي أن أتكلم بأي شئ, لكن الحروف فرت من طرف لساني. كنت أقول في نفسي, إن جمالها ظالم لمن يعرفه, ظالم لأنه أعمق من أن يحتمل و أبعد عن أن ينال.

يا إلهي, أعرف أنك تعاقبني على خطيئتي, فارحمني .. إني معترف بكل ما اقترف قلبي من اشتياق, و بكل ما خالفت من الوصايا و الأحكام الثابتة, و تناسيت المكتوب في إنجيل متى: كل من نظر إلى امرأة يشتهيها فقد زنى بها في قلبه, فإن قادتك لذلك عينك اليمنى, فاقلعها و ألقها عنك, فإنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك, و لا يلقى جسدك كله في جهنم.
يا إلهي, أعرف أنني أخطأت, فأدركني بعفو منك يا رحيم, و لا تلق بي في جحيمك من الآن. إن النار تشتعل في, تشتعل بي, فصيرني رماداً أو هباءً منثوراً على الطرقات. ارحمني, فإنني ما عدت أحتمل العذاب المقيم. أنا يا إلهي مسكين, منكسر, وديع. إنني محزون و أنت رحيم, و قد قال يسوع المخلص, في أول عظة ألقاها على الناس: طوبى للمساكين بالروح, فإن لهم ملكوت السماوات. طوبى للودعاء, فإنهم يرثون الأرض. طوبى للحزانى, فإنهم يتعزون. و أنا يا إلهي, لا أطمح إلى ملكوت السماء, و لا وراثة الأرض, و لا حتى العزاء. كل ما أرجوه, أن ينطفئ اللهب الساري بين ضلوعي, و أن تذهب عني الآلام التي ألقت بي في هذا الركن منبوذاً, مهاناً ..



مقاطع من رواية : ( عزازيل ) للمؤلف : يوسف زيدان ( الجزء الرابع )

مقاطع من رواية : ( عزازيل ) للمؤلف : يوسف زيدان ( الجزء الرابع )

انظر إلى عظمة هذه الكنيسة بقلبك فيمتلئ بالايمان, ثم اعرف أن القديسة التي قامت ببنائها, و هي هيلانة أم الإمبراطور قسطنطين, كانت في ابتداء أمرها ساقية في مواخير الرها .. كيف لنا أن نفهم ذلك التحول في سيرة الإمبراطور و أمه, إلا بالقياس على معجزة يسوع المسيح, و المعجزة يا هيبا, تحدث على سبيل الندرة, و نحن نؤمن بوقوعها النادر, ثم نعمل العقل و القياس في الظواهر, حتى نفهمها و نحل تناقضاتها . و هكذا الحال مع بية الأمور: نؤمن, ثم نتعقل, فيتأكد إيماننا .. هذا هو طريقنا .

بينما الرجل يقرأ صلواته, كنت أفكر في موتاي .. إنني لا أعرف قبراً لأبي, و لا أظنه دفن أصلاً ! ربما رمى كهنة المعبد بقاياه في النيل, بعدما اطمأنوا إلى رحيل قاتليه, فأكلتها التماسيح .. فهل رمى الإسكندريون أوكتافيا في البحر, لتأكلها الأسماك, أم دفنوها في تلك المقابر القريب من أطلال الحي الملكي ؟ .. هيباتيا لم تدفن بالطبع, لم يبق منها شئ ليدفن . و لم يأكل دود الموتى شيئاً من جسمها, فقد انتهت مثل شجرة أحرقت فصارت فحماً. الفحم يشعل النار, و الجسم المدفون في الأرض يعيث فيه الدود ! فهل كان الأليق بهيباتيا أن تحرق بعد موتها, كيلا يصير جسدها الكافوري مرتعاً للديدان ؟ .. من أين يأتي الدود ليأكل الموتى ؟ الأطباء القدامى الكبار,, الذين شرحوا الأجسام الحية و الميتة, لم يذكروا في كتبهم وجود دود في الأحياء, فمن أين يأتي الدود بعد الموت؟ هل هو كامن فينا, بحيث لا يظهر إلا بعد موتنا ؟ أهو كامن أيضاً في الفواكه الرطبة, و في الجبن القديم, و في الأجسام الحية! ينتظر موت الكائن و فساد جسمه, كي يحيا على الموت, ثم يموت. يقال إن هذا الدود لا يأكل رفات القديسين و الشهداء ! فهل هي معجزة لهم, أم هي معجزة للدود الذي يفرق بين الأجسام, المقدسة منها و غير المقدسة ؟ .. على أن الدود فيما اظن لا يفرق, و لا يعرف أجساد القديسين من غيرهم, و إلا فهو لا يتطرق أيضاً لأجسام المومياوات المحفوظة ببلادنا في التوابيت العتيقة .. لماذا حفظ المصريون القدماء أجسام موتاهم بسحر أو علم, يمنع عنها الدود ؟ أم ترى أن أجسادهم كانت هي الأخرى مقدسة !

أتراني يوماً سأدفن, فيكون لي قبر كثقب في جدار, مثل هذا الذي قرأ عنده الخادم الصلوات, مستنزلاً الرحمة على أمه و أبيه بعدما صارا تراباً ؟ .. و إن صار لي مثل هذا القبر, فمن عساه يأتي كي يستنزل الرحمات بالصلوات على قبري, و أنا لا أهل و لا ذرية لي ! .. أتراني سأصير يوماً مرتعاً لهذا الدود الأبيض الذي يأكل الموتى, مع أنه لا أسنان له ! أم تراه ابتدأ بالفعل يأكلني, من دون أن أفطن له .. أشفقت على نفسي إذ تذكرت منظره, يوم رأيت في طفولتي بطة ميتةً ميتةً ملقاةً بين الصخور, و كان الدود يصطخب بباطنها . في باطن الأرض إذا حفرناها, نرى الدود ! فهل ماتت الأرض, و الدود ينخر في باطنها من دون أن ندري ؟ حتى يضمحل هذا العالم, و يصير إلى العدم, و نحن غافلون ..

يوم رأيت هذا الدير أول مرة, بدا لي كأنه يقع عند التقاء الأرض بالسماء . كان الأوان آنذاك شتاءً, و كانت نسمات آخر النهار الباردة تمسح عني تعب الرحلة, و تسكب على العالم بهجةً خفية .. صعدنا التلة إلى الدير بجهد زائد من البغلتين, و بأمل يراودني في أن هذه محطتي الأخيرة . كنت قد تعبت من الترحال الدائم, و آن أن أجد لي ملاذاً بقية عمري, فأهنأ بسكينتي حيناً, ثم أموت ميتةً هادئة تنسل فيها روحي من صخب هذا العالم و اضطرابه إلى صفاء السماوات . بدا الدير محطة أخيرة لارتحالي المتتالي, لهجرتي المتوالية التي امتدت حتى تبددت من عندي ألفة كل الأماكن . ظننت أن مشيئة الرب قادتني أخيراً إلى هنا, ثم عرفت مؤخراً أنها كانت ظنون ذات منهكة .

أدركت بعد طول تدبر أن الىلهة على اختلافها, لا تكون في المعابد و الهياكل و الابنية الهائلة, و إنما تحيا في قلوب الناس المؤمنين بها . و مادام هؤلاء يعيشون, فآلهتهم تعيش فيهم, فإن اندثر أولئك انطمر هؤلاء .. مثلما مات الإله خنوم بعد موت أبي, و البقية الباقية من الكهنة الذين كانوا محصورين, في معبده الكبير جنوبي جزيرة ألفنتين . لابد أنهم اليوم جميعاً ميتون, و لابد أن معبدهم قد انهدم, أو صار كنيسةً لإله جديد . المسيح يسوع قال لليهود في أورشليم: اهدموا الهيكل, و سوف أبنيه في ثلاثة أيام . فكذبوه و قدموه للرومان ليصلبوه, لأنهم لم يفهموا أن الهيكل هو ذات يسوع المسيح الذي هدم هيكلهم بالفعل, ثم أعاد بناءه حين قام من موته بعد ثلاثة أيام . نحن أيضاً لم نفهم قول يسوع حين أشار إلى بطرس الرسول و قال: على هذه الصخرة, أبني كنيستي . لأننالم ندرك أن كل كنيسة بنيت أو سوف تبني, فهي لابد أن تقوم على رسولية بطرس و إيمانه الذي لا يعرف الشك, و إن كان يعرف الضعف ! فكما هو مكتوب , أنكر بطرس يسوع المسيح ثلاث مرات في ليلة واحدة, و قد أنبأه يسوع بما سيكون منه, من دون أن ينكر عليه ما سوف يفعله من إنكار له و خنوع عن نصرته . لم يكن يسوع يريد نصرة, بل فداء و تضحية, فبأي شئ كانت النصرة ستفيد, و أي ضرر كان من الإنكار ؟ أنا أنكرت هيباتيا أمام قاتليها, و أنكرت نفسي ثلاثة ايام أمام أوكتافيا, لأنني كنت خائفاً . الخوف صار طبعاً عندي, من يوم قتلوا أبي أمتمي .. و اليوم, لماذا أخاف الموت ؟ خليق بي أن أخاف من الحياة أكثر, فهي أكثر إيلاماً ! و لماذا تتفرق سحب الإيمان من سمائي كل حين . إيماني مثل سحابات الصيف رقيق, و لا ظل له . أنا لن أبني كنيسةً أبداً, و لن تقوم فوقي كنيسة أبداً, لأنني لست صخرة مثل بطرس الرسول, و لأن إيماني مشوب بشكوك كثيرة .

باحتماله الىلام دفع عنا الآثام,
و بالتضحية افتدانا .
بالمحبة نزل, و بالمحبة علا, و بالمحبة رسم الطريق,
فهدى الناس إلى السلام, و أهدى المؤمنين المسرة .
اكتوى بنار الأرض لينزل لنا برد السماء.
أتاح روحه أضحية على الصليب,
ليكفر عن كفرنا, و نخلص إلى خلاصنا.


فالآن أتذكر أيام الصفاء التي هدأت فيها روحي بين أحضان هذا الدير, و أشرفت شموس باطني من أفق الرحمة, حتى أنني نسيت أيامها عذاباتي الاولى و شكوكي و حيرتي الملازمة .. صرت كأنني أعيش بين السحاب, و أكاد أحس من حولي بحفيف أجنحة الملائكة التي تملأ السماء . و عرفت أيامها لأول مرة, سر الرهبنة و نعمة التوحد و صفاء الخلاص من صخب العالم. و تيقنت من أن الدنيا لا قيمة لها, و من انني لما تركتها خلفي, اشتريت أفق الروح الغالي بمتاع البدن الرخيص .