وردية ليل- إبراهيم أصلان


وردية ليل- إبراهيم أصلان
و مد يده إإلى المفتاح النحاسي البلدي بمقبضه البيضاوي المشغول, و أداره في ثقب الدرج بمقدمته الجوزية النظيفة, و جذبه قليلاً إلى الخارج, و تناول علبة الكبريت, و أشعل السيجارة. و لمحت مجموعة من المظاريف الحكومية الممتلئة, و اللفافات و العلب الورقية المرتبة بعناية. و جذب الدرج أكثر, و استطعت أن أرى كرة من الخيط الحريري الأبيض, و زجاجات صغيرة مغلقة, و مقص معدني دقيق, و كمية من الأقلام الخشبية.

و أعاد الصورة إلى مكانها, و جذب الدرج أكثر, و وضع المظروف, ثم أعاد جذبه عن آخره. كان عميقاً على نحو غريب, يمتد بعرض الطاولة ذات السطح الداكن المصقول, و بدأ يفحص العبوات الورقية و العلب المدورة القديمة التي امتلأت بزاد الليل. و فاحت روائح الفلفل الأسود المطحون و الملح و الشطة الناعمة و الكمون و الشاي و البن المحوج و زجاجات الزيت الحار و الصمغ البلدي و الخل و السبرتو الأحمر و جوز الطيب.

لاحظت أن المدخل مزدحم بالأشياء كما عهدته: كميات كبيرة من القدور الرخامية و الأواني النحاسية المطروقة و الزجاجات الملونة و المرايا ذات الأطر المنقوشة و المقاعد و الثريات و المشكاوات و التابلوهات الباهتة المركونة.

المرة الوحيدة التي اشترى فيها شيئاً من تلك الأشياء التي يعرفها الناس, كانت زجاجة عسلية اللون, لها بطن صغير مكور, خشنة الملمس و لها عنق قصير حافته مقلوبة و ناعمة, و كانت كلها في حجم ثمرة ضامرة, و كان قد رآها فاحبها و اقتناها دون دون أن يخبر محموداً عنها, و خبأها عن الأولاد, و من يومها لم تفارقه إلا عندما يخلع ثيابه لينام.

كان يتحرك متثاقلاً, يجمع أصول البرقيات التي تسلمها حتى الآن, يطويها بعناية داخل الاسطوانة المعدنية القصيرة ذات القاعدة المصنوعة من اللباد, و يجذب الباب الصغير في ماسورة الهواء المضغوط و يضع الأسطوانة و يغلق الباب و يروح يتابعها بأذنيه و هي تندفع في مواسير الحديد, تحتك, و تميل راحلة مع الجدران في سبيلها إلى مكتب الحركة الخارجية في الطابق الرابع, وسمع خلخلة الهواء حين خف ضغطه, و أدرك أن عيسى فتح الباب الآخر و استلم الأعمال. مد يده و جذب الباب الصغير و أغلقه عدة مرات, و عادت خلخلة الهواء أكثر جلبة عندما رد عيسى على تحيته بأن فتح الباب البعيد و أغلقه عدة مرات. ابتسم و هو يتطلع عبر المدخل المفتوح في آخر الصالة, حيث الرصيف النحيل, و الشجرة الصغيرة المائلة, و فكر سليمان أن يقوم, يغسل الكوب و البراد, و يشرب دوراً آخر من الشاي.

وجدتني متعباً.
لقد نزلت درجاً عريضاً يحميني سياج من خشب,
و حطب,
و أغصان.
و مضيت حينا.
أشعلت ناراً تحت شجرة كبيرة تحتلها العصافير.
و مررت أمام نافذة مفتوحة على جانب الحوش الكبير المكشوف,
و انحنيت.
كان القبو معتما,
و لكنني لمحت جمرة السيجارة المشتعلة في الجانب الآخر من الطاولة ذات السطح الناعم الذي التقط شيئاً من النور.
صباح الخير يا عم,
هذي الشوارع خالية,
صندوق البريد الكبير يستند وحيداً على الناصية,
أحمر على ليل.
و أنا أمشي.
تطفو الوجوه و تغيب,
يأتيني محمود قزماً بثياب ملونة
و المرأة آسيا حزينة و صامتة
و العم بيومي ينهض على مهل,
تذكرت البنت ذات العينين الكبيرتين, و الخرزة الثقيلة الزرقاء.
يا للخسارة,
رأيتني هارباً في مقعد من خشب,
و خريف,
و لحم السماء ينسدل أمامي,
أخضر على ليل,
و هناك أسطح و بيوت من تراب,
و فجوات, و عيون, لا تخلو من نور أو خيال.
كنت وحدي,
أمد نصلاً فضياً إلى لحم السماء,
و يكون شجاً مثل فم, له شفران من أرجوان,
أعمق الشج مهبلاً,
تنسحب يدي إلى جواري في إنتظار الدمعة الحمراء و هي تبزغ,
تنحدر,
تسقط في الأفق, ثقيلة دون صوت,
أرقبها حريقاً خفياً ينشر الحمرة و الظلال
تصحو بيوت التراب,
تنبض جدرانها بالصهد,
تنهار أشكالاً ترابية لرجال هدهم التعب,
و نساء هزيلات تدلت منهن الأثداء,
و بنات,
و خلجات غبار لعيال تجري,
و بالونات من عفار و ربيع,
تعلو, تملأ الأفق,
و تقترب.


No comments:

Post a Comment