من مذكرات نجيب الريحاني

مذكرات نجيب الريحاني
تأليف: نجيب الريحاني

كانت والدتي تأنف من مهنة التمثيل, و تكره أن يعرف عني أنني ممثل. و حدث أن كانت رحمها الله في عربة المترو عائدة إلى المنزل في مصر الجديدة, فسمعت رهطا من الركاب يتذاكرون شئونا فنية ورد أثناءها اسمي, فأرهفت أذنها لسماع الحديث, و أصغت إليه بكل انتباه دون أن تشعرهم. و ما كان أشد دهشتها حين سمعتهم مجمعين على الثناء علي, و امتداح عملي, و الإشادة بمجهودي... أتدري ماذا كان من هذه الوالدة العزيزة, التي تحتقر التمثيل و تنكره؟ لقد وقفت وسط عربة المترو و اتجهت إلى أولئك المتحدثين, و قالت بأعلى صوتها: الراجل اللي بتتكلموا عنه ده يبقى ابني أنا والدة نجيب الريحاني الممثل..... و خللي بالك من "الممثل" دي و هي الكلمة التي كانت امي تأنف أن أوصم بها قد أضحت موضع زهوها و فخارها و في هذا اليوم يوم المترو الذي لا انساه تفضلت والدتي رحمها الله, فشرفتني بالحضور إلى تياترو الأجيبسيانة خصيصا لمشاهدة ابنها الذي يقدره الناس دونها و يمتدحونه, فكان هذا اليوم من أسعد, إن لم أقل أسعد, أيام حياتي.


أما كيف تولدت عندي هواية التمثيل فقد نشا ذلك من إعجاب أستاذي الشيخ بحر بي و بإلقائي, كذلك كانت المدرسة تكلف طلبتها بين وقت و آخر بتمثيل بعض الروايات على مسرحها, و كثيرا ما كنت أندب لتمثيل الأدوار الهامة في هذه الروايات. و حين هجرت المدرسة اندمجت في سلك موظفي البنك الزراعي بالقاهرة. و تشاء المصادفات الغريبة أن يكون بين موظفي البنك في ذلك العهد الأستاذ عزيز عيد الذي لم يكن عمله هذا يمنعه من موالاة التمثيل.
و هنا ارى أن أشير إلى أول رواية اشتركت في تمثيلها و هي رواية الملك يلهو و كان قد ترجمها أديب اسمه أحمد كمال رياض بك.

48 ساعة جوع:
أقسم أيها القراء الأعزاء أنني قضيت ثماني و أربعين ساعة لم أذق خلالها للأكل طعما لا زهدا مني و لا أسفا على شئ و لكن لأنني لم أجد وسيلة أكتسب بها ثمن لقمة العيش بلا أدام و مع ذلك لم أحن رأسي و لم تذل نفسي و بقيت كما أنا و يفعل الله ما يشاء.

كنز سمين :
و إن نسيت فلن أنسى يوما قمت فيه من النوم و تلفت فإذا تحت وسادتي كنز ... كنز سمين يا سادتي لا يعرف قيمته إلا المفلسون. هذا الكنز هو... أتعرفون ما هو؟ قرش تعريفة و افرحتاه حمسة مليمات حتة واحدة. ما هذا الفتوح؟ و ما هذه البشرى؟ حقا يا سادتي إذا كان المثل يقول الصحة تاج على رءوس الأصحاء لا يشعر به إلا المرضى إذا كان المثل يقول ذلك فإنني أخالفه و أقول القرش التعريفة كنز في جيوب الأغنياء لا يحس به إلا المفلسون.
و عنها وسعت على نفسي في الإفطار و إن شا الله ما حد حوش فقد أكلت طعاما دسما عماده الفول المدمس و السلطة و الطعمية و العيش كمان لأن أيامها كانت الدنيا مبحبحة و القرش التعريفة ثروة.

No comments:

Post a Comment