قادة الفكر
طه حسين
الفرد إذن ظاهرة اجتماعية و إذن فليس من
البحث القيم العلمي في شئ أن تجعل الفرد كل شئ و تمحو الجماعة التي أنشأته و كونته
محوا إنما السبيل أن تقدر الجماعة و أن تقدر الفرد و أن تجتهد ما استطعت في تحديد
الصلة بينهما و في تعيين ما لكليهما من أثر في الآداب و الآراء الفلسفية و النظم
الاجتماعية و السياسية المختلفة.
**********************************************************
إن الشعر هو أول مظهر من مظاهر الحياة الاجتماعية
القومية لكل الأمم المتحضرة التي عرفها التاريخ و إذن فالشعراء هم قادة الفكر في
هذه الأمم تأثروا بحياتها البدوية فنشئوا ملائمين لها و تميزت شخصياتهم فأثروا
فيمن حولهم ثم في الأجيال التي خلفتهم.
****************************************************
تصزر جماعة من الناس لا يقرءون و لا يكتبون و
لا يختلفون إلى مدرسة و يستمعون إلى فيلسوف و لا يطمحون في حياتهم إلى أكثر من
الأكل و الشرب و الأمن و الدعة. هذه الجماعة التي تعيش هذه العيشة الخشنة تجدها في
البلاد اليونانية قديما و في البلاد العربية قبل الإسلام و في بلاد أخرى لم تبلغها
الحضارة اليوم تصور هذه الجماعة و قد أقبل عليها في يوم من الأيام رجل في يده أداة
موسيقية تشبه الربابة فأخذ يلحن على أداته الموسيقية و اجتمع الناس حوله يستمعون
إليه و ما عي إلا أن أضاف إلى ألحانه غناء أخذ ينشده. فغنى الناس به و شجعوه و
اندفع هو في غنائه و إذا هو يقص عليهم في لغة عذبة ساذجة رائعة أخبار طائفة من
الأبطال يمثلون الثروة التي يطمحون إليها و القوة التي يعتزون بها و الشجاعة و
البأس و ما إلى ذلك من الأخلاق و الخلال التي يكبرها البدو و يحرصون عليها لأنها
قوام حياتهم و اندفع الشاعر في قصصه يغنيه و يلحنه و أغرق الناس في الإستماع إليه
و الإعجاب به و إذا عم معلقون بشفتيه و إذا هو يخلب ألبابهم و يستهوي عقولهم تى
إذا فرغ من قصصه و غنائه التفوا حوله يهنئونه و يكرمونه و استقبوا إليه يضيفونه و
يمنحونه المنح حتى إذا قضى بينهم أياما ينشدهم و يجيزونه تركهم وقد حفظوا عنه
كثيرا و قد أحيا عواطفهم و غذا عقولهم. تركهم و انتقل إلى جماعة أخرى و قد شجعه ما
لقي من الجماعة الأولى فكان أمره مع الجماعة الثانية كأمره مع الجماعة الأولى.
تصور هذه الجماعات و هؤلاء الشعراء المغنين توجد لنفسك صورة مقاربة للحياة
اليونانية و تأثير الشعر فيها أيام البداوة. تصور الشعراء العاميين الذين يقصون على
الناس في قرى مصر أخبار الهلالية و الزناتية يلحنونها على الربابة و لكن لا تتصور
الناس الذين يستمعون لهؤلاء الشعراء متحضرين تحضر المصريين يلتمسون آدابهم و
أخلاقهم و نظمهم المختلفة في الدين و العلم و الفلسفة و السياسة و إنما تصورهم
قوما ليس لهم دين منظم و لا أدب مدون و لا فلسفة و لا سياسة و إنما الشعراء يحملون
إليهم من هذا كل شئ. تصور هذا تتمثل ( الإلياذة ) و ( الأودسا ) في الحياة
اليونانية الأولى.
ثم أضف إلى هذا كله شيئا آخر و هو أن هذه
الأناشيد التي كان يتغنى بها الشعراء على هذا النحو الذي قدمته لم تكن كأخبار
الهلالية و الزناتية و إنما كانت تمتاز بشئ من الجمال و الروعة ليس إلى وصفهما من
سبيل فلم يقف تأثيرها عند هذه الجماعات البادية و إنما تحضرت هذه الجماعات و
التمست آدابها و فلسفتها و نظمها في مصادر أخرى غير هذه الأناشيد.
No comments:
Post a Comment